المثقف الجديد

المثقف الجديد

19 نوفمبر 2017
+ الخط -
إذا كان دور المثقف قد تحدّد في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين في النزعة الإنسانية؛ والمنهجية النقدية؛ وترسيخ حقوق الإنسان؛ والمساهمة في النقاش العمومي بشأن القضايا الحيوية. وإذا كان الوضع الاجتماعي هذا للمثقف قد أثمر رصيدا تاريخيا من الأفكار والأفعال يحق للبشرية أن تفتخر بها.. إذا كان الأمر كذلك آنذاك، فما هو الوضع الجديد للمثقف في الألفية الثالثة في عصر العولمة المخترقة للجماعات نحو الأفراد؛ ومن تكنولوجيا جديدة تسرع التواصل وتؤثر في الاختيارات وصنع الأفعال؛ ومن هيمنة الذكاء الصناعي؟ وما هي المهام الجديدة التي يجب أن تقوم بها فئة قديمة جديدة متعلمة وفق الآداب والعلوم الإنسانية والفلسفة، فئة ليست مهندسة، لتشارك في التفكير والفعل كاستراتيجية أو تنفيذ، كما لا تنتمي للفقه القانوني إبداعا وتنظيما؟ فئة تبدو الآن بدون جدوى، بعدما تركزت الليبرالية الجديدة حول براديغايم جوهري هو النجاعة؟
عمل المحتكرون للمعرفة في القرون الوسطى الصينية والإسلامية والمسيحية على تعقيد أساليب التعلم، لتنحصر في دوائر مغلقة ومحافظة، تعمل على تأبيد مصالح فئات ضيقة، الأمر الذي استطاعت زعزعته فلسفة الأنوار التي عملت جاهدة على ضرب احتكار التعليم، لتشمل أوسع الفئات الشعبية، وقد ساهمت في ذلك الطباعة بشكل كبير. هذه الثورة الأنوارية أفرزت تحولات اجتماعية كبرى تجلت في القطع مع الفيودالية وتكريس دولة القانون سياسيا وحقوقيا، وإنتاج العلوم الإنسانية، من أجل ملاحظة الواقع الاجتماعي وفهمه ووصفه وتحليله، وفق أولية السياق ونسبية المعطيات، ومن ثمة نسبية المعتقدات والتوجهات والآراء والسلوك.
بعد ذلك، ظهر مثقف نوعي، غايته تحويل مجرى التاريخ لصالح فئات وأحزاب بعينها، وفق براديغايم الصراع الطبقي، وانتشار مفاهيم جديدة مثل الحزب والاقتراع والثورة، إنه المثقف العضوي المناهض لمثقف السلطة والطبقة المهيمنة.
لقد بقي مفهوم المثقف العضوي مهيمنا في أثناء الحرب الباردة خصوصا، واستثمرته النقابات والأحزاب والطلبة أيّما استثمار، حتى بدأ يتهاوى مع سقوط جدار برلين والمنظومة السياسية السوفياتية.
المثقف في الأصل هو الحذق والانتباه والحذر واليقظة، هو الذاكرة القوية للمعاني والدلالات والرموز. وهو الفهم وفك الشفرات والنقد والتوجيه نحو الملائم والأفضل والحقيقي وليس الناجع فحسب.
ثم جرت مياه كثيرة تحت جسر المجتمعات والمفاهيم، لندخل في الألفية الثالثة تحت إمبريالية جديدة، قوامها المال واللوغاريتم. المال بدل الإنتاج، وتحكم الحساب والإحصاء في توجيه الذوق والاختيار بدل الإعلام والدعاية الكلاسيكيين. ماذا يمكن للمثقف الآن وفق المستجدات أن يفعله؟
إضافة إلى ضرورة الاستمرار في التنوير ونزع البساط تحت حراس المعبد وكل من يحاول أن يحتكر الخيرات المادية والرمزية والمعرفية، على المثقف اليوم أن يفهم ويحلل آليات اشتغال التحكم المالي والإعلامي واللوغاريتمي. على المثقف اليوم أن يفضح تحكم فئة قليلة من سكان الأرض في جل خيرات الأرض ترابا وماء وطاقة. عليه النضال ضد التلوث وتدخل الهندسة الوراثية في تشويه الطبيعة وإخضاع الغذاء والصحة والتعليم لمنطق الربح والنجاعة.
كما على المثقف الجديد أن يعي النشاط الاستخباري للوغاريتمات في التتبع السري للحياة، عبر النقر على الحاسوب لفتح موقع، وإمطاره باقتراحات تصنع الرأي والذوق والفعل الاجتماعي، إلى حدود عدم القدرة على الحديث على واقع اجتماعي لا يؤثر فيه الرقمي.
على المثقف الجديد أن يبدع في أشكال المقاومة، بالعودة إلى الطبيعة والثقافات الجماعية والجمال الشعبي، وإبداع تعليم موازٍ للرقمية، تعليم يقتبس من الأنشطة اليدوية الزراعية والصناعية. كما عليه في المقابل أن يفهم الوجه المضيء للتكنولوجيا الرقمية في نشر المعلومة وعدم احتكارها من امبراطوريات الإعلام الكلاسيكي، وكذلك نشر العلم والرفع من رصيد الرأسمال الثقافي للناس البسطاء، وبذلك توجه المجتمعات نحو الديمقراطية المباشرة والتشاركية.
مهام مركبة تتجلى في تثمين التقدم التكنولوجي، وتتبع فتوحاته والاستفادة منها إلى أقصى مدى، مع الحذر في السقوط في عبودية جديدة، توهمنا بالحرية شكلا وتمارس السيطرة علينا في أدق أمور الحياة.
أخيرا وليس آخرا، على المثقف الجديد تقوية دور الفلسفة والعلوم الإنسانية كفكر يعلم النسبية والتسامح، ضدا على كل الدوغمائيات العمياء، دينية وسياسية وتجارية.
F103ACEE-0B16-4840-B9A7-80F65E4B72D2
F103ACEE-0B16-4840-B9A7-80F65E4B72D2
قسطاني بن محمد (المغرب)
قسطاني بن محمد (المغرب)