نظرية أبي لهب عن "الخطر الإسلامي"

نظرية أبي لهب عن "الخطر الإسلامي"

18 نوفمبر 2017
+ الخط -
عندما نحت مصطلح "الإسلاموفوبيا" في بريطانيا منتصف التسعينات، لم يخطر ببال من استحدثه أننا سنشهد موجة "إسلاموفوبيا إسلامية"، مصدرها قلب العالم الإسلامي نفسه، كما هو الحال اليوم. ولعلها مفارقة أن المجموعة التي "اكتشفت" هذه الظاهرة لم تكن تبحث عنها، وإنما شكلت لدراسة انبعاث العداء للسامية في أوروبا من جديد. إلا أنها اكتشفت عرضاً تصاعداً مخيفاً للعداء للإسلام (وقبل أحداث "11 سبتمبر"!). وقد دفع ذلك بالمنظمة الراعية إلى تبني دراسة نتج عنها أول تقرير عن ظاهرة الإسلاموفوبيا في عام 1997.
وإذا كان الافتراض هو أن مصدر الإسلاموفوبيا هو بالضرورة من خارج المحيط الإسلامي، كما أن العداء للسامية مصدره غير اليهود، إلا أن هناك دلائل مبكّرة على "إسلاموفوبيا" داخلية مصدرها أنظمة الاستبداد. وأذكر هنا مشاركة، قبل صدور تقرير الإسلاموفوبيا بعدة سنوات، في ندوة نظمها مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، لمناقشة مقالة نشرتها دورية "فورين أفيرز" حول "الخطر الإسلامي"، لكاتبتها علاقة حميمة بالنخبة الإسرائيلية. وعشية الندوة أسر إلي أحد المنظمين أن هذه ندوة "أكاديمية" بالمعنى السيئ للمصطلح، لعدة أسباب، منها أن المجلس لم يعد أهم محافل صنع السياسة الخارجية الأميركية كما كان الحال في السابق. أما السبب الأهم، فهو أن سرديات "الخطر الإسلامي" كانت تأتي في ذلك الوقت من منطقة الشرق الأوسط، وتحديداً من حلفاء أميركا، وفي مقدمتهم مصر وإسرائيل، ومن حالفهما من دول الخليج وشمال أفريقيا.
كانت الأنظمة ترى في صعود الإسلاميين التهديد الأكبر لقبضتها الأحادية على السلطة، 
وطفقت، في الوقت نفسه، تروج الخطر الإسلامي، بدعوى أنها خط الحماية الأخير ضد هذا الخطر المزعوم. ويذكّرنا هذا بتشبيه المنظّر السياسي الأميركي، تشارلز تيلي، الدولة الحديثة في أوروبا في أول عهدها بعصابات المافيا، لأنها تدّعي الشرعية باسم حماية المواطن من خطر صنعته هي. وهكذا، فإن الأنظمة العربية تمارس الفساد والقمع، ثم تتهم من يشير إلى جرائمها بأنه يقوّض النظام. وما قوّض النظام هو الجرائم المرتكبة، وليس الحديث عنها. كذلك تقوم الأنظمة بحظر الأحزاب والقوى السياسية ذات الشعبية، ثم تحاكم منتسبيها بدعوى الانتماء إلى "تنظيم محظور"، هي التي حظرته ظلماً.
ما يوحّد بين أنصار الإسلاموفوبيا، في نسختها التقليدية من عرب وعجم، هو بالتحديد هذا الإجماع على لوم الإسلام والإسلاميين على جرائمهم. فالإسرائيليون يزعمون أنه لولا الإسلام "المتطرّف" لكان الفلسطينيون اليوم سعداء بحرمانهم من حقوقهم ونهب أراضيهم، ولأمسوا وأصبحوا يقبلون حذاء نتنياهو، وهو يعلو ظهورهم بالسياط. وقبل أيام، سمعنا زعيماً عربياً يزعم أن الناس كانوا سعداء باستبداد نظامه وفساده، حتى جاءت الصحوة الإسلامية في عام 1979، فشهدنا "انقلاب المطبوع" وتجرؤ الناس على حكامهم. ويضيف آخرون أنه لولا "الإخونجية" لما وقعت نكبة الربيع العربي التي هدّدت الاستقرار في المنطقة.
وهذه إشادة غير مقصودة بالإسلاميين، تدّعي أنه لولا هؤلاء لما كان هناك من ينتفض ضد إسرائيل، ومن يعترض على الطغيان والفساد، ومن يطلب الإصلاح السياسي. وبهذا المنطق، لا غزو العراق ولا اغتصاب فلسطين يمكن أن يفسر لجوء بعض المتأثرين، ومن يتعاطف مع قضيتهم، إلى العنف لإسماع صوته. وبالطبع، هذا غير صحيح، لكن القوم يظنون من جهلهم أن "اتهام" الإسلاميين بقيادة النضال من أجل الحرية والكرامة يسيء إلى كل مواطن شريف يطلب حقه، أو يدافع عن العدل وينصر المظلومين. وهذا جهل مبين. فطالب الحق وقائله يظل كريماً مكّرماً، ولا يمكن أن يقلل من شأنه الكذب في حقه، بل بالعكس.
ليست هذه كل القصة. ذلك أن أساطين الإسلاموفوبيا لم يقتصروا على لوم "التطرّف الإسلامي" على الانتفاض ضد الظلم والعدوان، بل ذهب كثيرون منهم إلى أن المشكلة هي في الدين الإسلامي نفسه، كما في مقولة صامويل هنتنغتون الشهيرة إن مشكلة أميركا هي مع الإسلام، وليست مع التطرّف الإسلامي. وقد حمل هذه الراية قطاعٌ من اليمين المتطرّف، بإيعازٍ من قادة إسرائيل ومن يناصرهم في الغرب. ويجادل هؤلاء بأن العنف متأصلٌ في فكر المسلمين وعقيدتهم، بما يشبه الخلل العقلي أو النفسي. فالقضية إذن ليست سياسيةً تحتاج إلى التفهم والنقاش، وإنما نفسية تحتاج إلى العلاج. وأول الدواء عند هؤلاء هو الكي، وليس آخره.
ولكن، للتحالف الخليجي- المصري الذي تبلور أخيرا سبب إضافي للتبرؤ من أي تهمة "إسلامية"، وهو تبرئة النفس من تهمة أنها منبع الإرهاب، والفشل في احتواء المتطرّفين، خصوصا أن كل المتهمين بحادثة "11 سبتمبر" من السعودية والإمارات ومصر. لهذا تسعى هذه الدول لضرب عصفورين بحجر: أن تظهر الجدية في محاربة "التطرّف"، وأن تجيّش منتقديها أنفسهم لصفها بدعوى التصدّي لخطر مشترك.
ويذكّر هذا بحجة أبي لهب ونخبة قريش ضد "الخطر الإسلامي" في أول عهد الدعوة 
الإسلامية، الذي كان عندهم يهدّد مكانة قريش بين العرب، ويجلب لها عداء القبائل الأخرى. وهذا يجعل من الحكمة احتواء الأمر داخلياً، حتى لا يصبح مصدرا خارجيا. وكانت لأبي لهب حجة إضافية، هي أن الخطر الأكبر هو على بني هاشم، ومن واجبهم معالجة المشكلة بأنفسهم، قبل أن يصبحوا هدفاً لقريش أولاً، ثم بقية العرب ثانياً، فيخرج الأمر من يدهم.
ومن ناحيةٍ منطقيةٍ وواقعية، كان أبو لهب على حق، وقد حدث ما حذّر منه من استهداف قريش لبني هاشم، حتى بلغ الأمر حد الحصار والمقاطعة الكاملة والتجويع. ولكن خطأ هذه النظرية هو الظن بإمكانية قمع فكرةٍ جاء أوانها. فكما فشلت قريش في احتواء الإسلام في عهد لم تكن فيه صحافة ولا قنوات فضائية ولا إنترنت، فإن الخطل البيّن في الاعتقاد بإمكانية إعادة دعوات الشفافية والديمقراطية إلى قمقمها، وإسكات الأصوات التي تريد مناقشة أمور الدين والدنيا في العلن، هو أمرٌ لا يحتاج إلى دليل. بل بالعكس، إن مجرّد المساعي المحمومة إلى تجييش الجيوش الإلكترونية والعسكرية والفضائية لمحاربة هذه الدعوات يجعلها محور الاهتمام.
وهكذا، نجد أنه قبل الحصار على قطر، وقبل مغامرات جيوش دون كيخوتة الجديدة في اليمن وليبيا، والآن لبنان، لم نكن نسمع كثيراً عما يحدث في الإمارات والسعودية. ولكن حالياً لا تمر ساعة إلا وهناك سيلٌ من المواد الإعلامية تكشف خبايا ما يحدث في قصور الحكم في البلدين. بل إن إعلامهما نفسه يعتبر أكبر محرّض ضدهما، لما يفيض به من تحد بين للعقل والمنطق السليم، وترويج أساطير يدرك مروّجوها قبل غيرهم أنها تفتقد السند.
والعاقل هو من يتذكّر أن لا أحد يذكر أبا لهب بخير هذه الأيام، ولا حتى في تل أبيب.
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي