دواء فعال لعلاج كل شيء

دواء فعال لعلاج كل شيء

16 نوفمبر 2017
+ الخط -
(1) 
لا يقل دور المعالجين بالوصفات الشعبية عجائبية عن دور "المحلل السياسي" الذي يطل علينا من شاشات التلفزة، وشاشات اليوتيوب، ومنصات التواصل الاجتماعي، فقد تكاثر هؤلاء وأولئك على نحو يثير في النفس الرغبة في هجر التكنولوجيا "الذكية" مرة واحدة وإلى الأبد.
فلا تكاد تدخل موقعا ما، أو تفتح محطة ما "من إياهم" حتى يطل عليك هذان المشعوذان، فيقذفان في وجهك بكل غريب ومريب، وكلاهما "خبير". الأول بالأعشاب، والثاني بشؤون كذا السياسية، وهما اغتصبا هذا الوصف عنوة، فلم يمنحهما أحد شهادة خبرةٍ ولا ما يحزنون، إنما هما متطفلان على "المهنة" طارئان عليها، احترفا الكذب، فرارا من البطالة، وطمعا في تدبير كلفة العيش بعرق مسموم.

(2)
لدى المشعوذ الأول، أعني "خبير الأعشاب"، علاج لكل شيء، ابتداء بالصلع، وانتهاء بالسرطان، مرورا بالقضاء على الشيب بخلطة واحدة، وانتزاع آلام الركبة، وصولا إلى "عودة الشيخ إلى صباه!" وإزالة التجاعيد، وإحياء موات "الفحولة" والغريب العجيب أنك تجد إقبالا مهولا على مشاهدة "أفلامه" المحروقة التي تتبختر في "يوتيوب"، وتجدها وقد حققت "لايكات" وقراءاتٍ لم ينلها محمد عبده أو إدوارد سعيد في زمانيهما. والأغرب والأعجب أنك لا تكاد ترى أي تعليقات على "الفيديو" إياه، سواء استحسانا أو ذما، ولا يخبرك أحد ما إذا جرّب "وصفة الخبير أم لا". وأصدقكم القول إنني لكثرة ما شاهدت من هذا النوع من "العلم"، قلت في نفسي لأجرب واحدة من هذه الوصفات، مدفوعا برغبة شديدة في وضع هذه الأكاذيب على محك التجربة العملية، قبل أن أزعم كذبها وشعوذتها، وقد اخترت وصفة "سحرية!" خاصةً بعلاج آلام الركبة، وهي تتكون من مسحوق الفلفل الأسود، وزيت الزيتون، حيث يتم خلطهما ووضعهما على الركب بضع ساعات، مع التحذير هنا من أن الركبة ستشتعل بفعل الفلفل الأسود. وقد نفذت الوصفة بدقة، وصبرت على النار التي اشتعلت بركبتي ثلاث ساعات. وحين غسلت ركبتي من "المصيبة" التي وضعتها عليها، شعرت بحكّة رهيبة لم تكن تغادرني حتى اليوم. وبالطبع لا شفاء ولا ما يحزنون، وكعادة الباحثين بلهفة عن الوصفات "السحرية"، لم أضع تعليقات على فيديو الوصفة، تنقل تجربتي الفاشلة مع السخف الذي فحصته، وثبت دجله، وعبثيته.
(3)
المشعوذ الثاني، وهو ذلك المحلل السياسي (أو المحرّم لا فرق!)، الذي لا يقل دوره عن دور المشعوذ الثاني، فهو مسخّر لخدمة فكرة ما، أو "حملةٍ" تشنها قناة مبرمجة لهتك ستر دولةٍ ما، وسرها وعرضها، وتجند في هذا جيشا من الكذبة المشعوذين، لقذف حممهم في وجوه البشر، لتضليل وعيهم واختراع الأكاذيب والأراجيف، وترويج الإشاعات، وتزييف الحقائق.
كثر المحللون السياسيون والكتّاب، حتى باتت "مهنة" المحلل السياسي تصرف بغير علم ولا فهم، لكل من هبّ ودب، وخصوصاً في قنوات الحوار والأخبار، حيث تحتاج ساعات البث الطويلة، وتلاحق الأحداث إلى "محللين" سياسيين، يقرأون الحدث ويعلقون عليه ويستنبطونه، بعلمٍ أو بغير علم، بل إنك صرت تقرأ أن فلاناً "خبير" بالشؤون الإيرانية، وهو لم يصل يوماً إلى طهران، ولا يعرف ولو كلمة من اللغة الفارسية، وقل مثل هذا عن "الخبراء" بالشأن الإسرائيلي أو التركي. وأكثر ما يغيظك من يسمون خبراء في "الجماعات السلفية والجهادية"، وأغلب هؤلاء أدعياء يهرفون بما عرفوا من علم قليل سطحي عن هذه الجماعات، ويزعمون أنهم عالمون ببواطن الأمور، طلبا للارتزاق من هذا العلم المُدّعى.
ولا يختلف دور هذين المشعوذين عن دور مشعوذ آخر، اعتدنا أن نراه وقد ارتدى مسوح "رجال الدين". وهذا الصنف من الشعوذة مختص بتشويه صورة الدعاة والجماعات الإسلامية المختلفة، ورميهم بأقذع الصفات، ابتداءً من التطرف والإرهاب والعمالة للأجنبي، وانتهاء باتهامهم بسوء السلوك الأخلاقي، الذي عادة ما يصل إلى الزعم أنهم شاذون جنسيا، ويرتكبون فحش قوم لوط.
ويبدو أن جعبة هؤلاء المشعوذين، ومن يدفعون لهم، لم تزل عامرة بكثير من السهام، ومهمتهم لم تزل مطلوبة، مع تكاثر الأزمات والبؤر الساخنة التي أصابت جسد أمتنا، وتركتها على الحال التي نراها من البؤس والتمزق.

دلالات