كلمة حق في ذكرى أبو عمار

كلمة حق في ذكرى أبو عمار

15 نوفمبر 2017
+ الخط -
فيما يُروى عن الخليفة العادل، عمر بن الخطاب، أنه قد خرج يوماً ليتقصّى أحوال الرعية، فقابل امرأة عجوزاً، فسألها عن حالها. فأجابت إنه لا فئران في مطبخ بيتها، وكان ردّها هذا رسالة سرية ومقتضبة فهمها الخليفة الذي كان يحرص على رعيته، ويُخشى أن تتعثر دابة في أرض العراق، فيسأل عنها أمام الله، وفحوى هذه الرسالة أن هذه المرأة قد بلغ بها الفقر والجوع إلى درجة أن خلا بيتها من رائحة أي طعام، كالسمن والزيت والدقيق، وهي الرائحة التي تجذب الفئران إلى مطابخ البيوت، فحمل لها بنفسه ما استطاع من مؤن وأوصله إلى بيتها.
تذكّرت ما قرأت من رواية سابقة، حين حدثتني امرأة فقيرة عن حالة الفقر التي وصل إليها بيتها، فيما كانت الجموع تستعد لكي تستقل الباصات المؤمنة ذهابا وإيابا من قرى قطاع غزة وبلداته ومدنه كافة، للانطلاق نحو مركز مدينة غزة وإحياء ذكرى وفاة القائد ياسر عرفات الثالثة عشرة، وبدأت المرأة تبكي حالها، وحال زوجها، وأولادها الشباب العاطلين عن العمل، وتحسّرت بمرارة على زمن ياسر عرفات، حين كانت تذهب وتدقّ باب مكتبه، فلا يوقفها أحد، وتشكو له فقرها، وكان أولادها آنذاك صغارا، فيصرف لعائلاتها المعونات التي تقلصت تدريجيا، حتى انحسرت في مخصصات وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) التي توزع كل عدة أشهر، لسد الرمق لا أكثر.
مما يحسب للراحل ياسر عرفات أنه كان قائداً شعبياً بسيطا، ولم يغلق بابه في وجه أحد، ولم يحارب أحدا في لقمة عيشه، وعمل على أن يكون رافعاً للمعنويات، وقائدا ميدانيا شجاعا، ولم يتخاذل يوما عن الدفاع عن لحمة شعبه الذي كان يثق فيه أيما ثقة، ويلتف حوله، بفئاته وفصائله كافة من رجال ونساء وشبيبة وشيبان وأطفال، فلا عجب أن تخرج المسنات من فوق الكراسي المتحركة؛ لإحياء ذكراه، وفي قلب كل واحدة موقف لا ينسى للقائد الراحل الذي جمعهم على حب فلسطين، وحين كانت القضية مبعثرةً، والحديث بعد النكبة عن لاجئين مشردين في أنحاء العالم، لكنه استطاع أن يجعل من حركة فتح العمود الفقري للثورة الفلسطينية.
علّمنا أبو عمار أن نحب الوطن، وخرجنا صغاراً ونحن نرفع علم فلسطين، ولم تكن هناك شعاراتٌ ولا أعلام غيره. وفيما أذكر في ثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت الأشهر الأولى من انتفاضة الحجارة، وكنت وقتئذ في القاهرة، فالتقيت في أحد الفنادق الكبرى بسائحة أميركية. وبدأت أعرّفها بنفسي، فصاحت بعبارة واحدة: فلسطين، ياسر عرفات، فأجبت بإيماءةٍ من رأسي، وبفخر واعتزاز، أنني فلسطينية، والكوفية المرقّطة السوداء تلتف حول عنقي.
تأتي ذكرى أبو عمار وغزة تستعر فيها نار الجوع، غزة التي كانت محطته الأخيرة، حيث استشهد بملوحة بحرها وجبروت أهلها التي خرج منها في رحلته الأخيرة، فالجوع قد نهش البطون، وأصبحت البطالة في أعلى معدلاتها، والجموع التي خرجت لتحيي ذكراه في قلوبها غصة، وفي ذاكرتها وذاكرة التاريخ حسرة على أيام الزعيم الخالد الذي ارتبطت به القضية والهوية الفلسطينية.
في ذكراه الثالثة عشرة، أصبح محتما أن تُطوى صفحة الانقسام الفلسطيني البغيض، وأن تعود فلسطين كما كانت، وكما أرادها أبو عمار واحدةً موحدة، وإن كان بعضهم يأخذ بعض ما يأخذ على أبو عمار، خصوصاً بعد توقيع اتفاقية أوسلو، فيكفي أنه جعل من فلسطين ندّا أمام باقي دول العالم، وقد أعلن من الجزائر قيام دولة فلسطين، في وقت صعب، مؤكداً إصراره على أن يبقى للفلسطينيين قرارهم المستقل.
إحياء ذكرى أبو عمار يوقفنا أمام تحديات كثيرة، منها ضرورة الحرص على تكبير الوطن داخل قلوب أولادنا، وعدم تحقيره بالانقسام والفرقة، ولن يكون ذلك إلا بتطهير المؤسسة الفلسطينية الكبيرة من المندسّين والمحسوبين عليها، لكي تسير هذه المؤسسة نحو أبواب مستقبلٍ زاهر، ومفردات حياةٍ تليق بأبناء الأب الذي راهن عليهم طوال حياته.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.