مستقبل المدينة العربية

مستقبل المدينة العربية

14 نوفمبر 2017

(هاني حوراني)

+ الخط -
أعلنت الأمم المتحدة، مطلع العام 2016، خطتها للتنمية المستدامة في المدن حتى العام 2030، والتي تضمنت سبعة عشر بنداً شملت مختلف جوانب الحياة الإنسانية. والمأمول أن تستجيب الإدارات القائمة على تنظيم الحياة في المدن، كالبلديات، في تنفيذ تلك الخطة، وتطبيق معاييرها، من أجل الارتقاء بالحياة في مدن العالم وتنميتها.
شملت البنود الجانب الثقافي، حيث عبّرت عنه الخطة، باعتباره مجالاً لإتاحة فرص المعرفة للمجتمعات، ما ينعكس تالياً على سلوكها اليومي وعلاقاتها البينية. وفي هذا السياق، ينعقد في عمّان، أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، مؤتمر "مستقبل الثقافة في المدينة العربية"، بتنظيم من مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية، التابعة لمنظمة المدن العربية. يبحث كيفية إدارة العمل الثقافي في المدينة العربية، للوصول إلى "التنمية الثقافية" في مجتمعاتها. أما مفهوم التنمية الثقافية، بحسب ما تراه الجهة المنظمة، فهو "الارتقاء بمنظومة القيم والسلوك في المجتمع، باتجاه القيم المدنيّة، كاحترام القانون وحماية الممتلكات العامة واحترام الآخر، وذلك باستعمال المنتجات الثقافية، كالكتب واللوحات الفنية والأعمال المسرحية والمقطوعات الموسيقية، عبر الاعتناء بجودتها".
والحال أن ثمة حاجة ملحة للتنمية الإنسانية والثقافية، تتوافق مع التنمية المادية، بل يمكن القول إنها تحميها. إذ لا ضمانات لتنمية مادية ناجعة، ما دام المستفيد منها يمارس سلوكاً غير مدني. لكن القضية هنا أن الجهود الفردية لا تكفي! أما الجهود الجماعية، فليست متحقّقة بما يكفي، لكن ما يمكن الاطمئنان إليه أن ثمة وعياً جماعياً متزايداً بشأن ضرورة جمع التنمية الثقافية مع التنمية المادية.
هنا، قد يصح القول إن البلديات، باعتبارها مؤسساتٍ للحكم المحلي، تظل الجهة الأكثر فاعلية في الجمع بين هاتين التنميتين، لاحتكاكها المباشر بالناس، وكونها هيئاتٍ أهليةً تمثلهم وتخدمهم. وإذا كانت معظم البلديات في بلداننا العربية ما تزال تحصر دورها في الجانب المادي: البيئي والرقابي والتنظيمي، فإن عليها أن تدرك أن الخدمات البلدية في المجال الإنساني ليست مطلوبة للدعاية أو الترفيه، بل للتنمية، ولا شيء غير التنمية.
كذلك، وجود مهمة حضارية كبرى ملقاة على العمل الثقافي، مفادها تطوير منظومة السلوك اليومي في مجتمعات المدن العربية، يعني بالضرورة أن ثمة حاجة ملحة لتدخل الجهات الحكومية ومؤسسات الحكم المحلي، في "التنمية الثقافية"، لأنها أولاً القادرة على التحكّم في المفاصل المؤثرة للمجتمع دفعة واحدة، ومن ثم امتلاك رؤية شمولية بشأنها. ولأنها، ثانياً، القادرة على المواءمة بين مرامي تلك التنمية، والأهداف الكبرى للتطوير المجتمعي الذي ينعكس على مجمل واقع الدولة وقدراتها الإنتاجية، لأن التنمية الثقافية لا يمكن أن تكون شأناً معزولاً، أو برنامج عمل متخصصاً، بل هي مسار موازٍ لمسارات التنمية الأخرى، وبالذات تلك الاقتصادية.
هنا أيضاً، علينا ملاحظة أن انفتاح اقتصادات الدول النامية في العقود الأخيرة، باتجاه إدماجها في الاقتصاد العالمي، قد ترافق مع ميل قيمي وثقافي باتجاه ثقافة الدول المسيطرة اقتصادياً؛ فدخلت مجتمعاتنا معايير جديدة تتعلق باستخدام اللغة، وبالمظهر الخارجي للأفراد، وبالسلوك اليومي، ما يمثل، بكثير من الموضوعية والحياد، وبعيداً عن أي انغلاق ثقافي، خروجاً من ذاتنا الثقافية.
هذه ليست، مرة أخرى، دعوة إلى الانغلاق الثقافي، غير أن الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها، أن إحداث تنمية ثقافية في مجتمعاتنا، تخدم طموحات النهوض بعالمنا العربي، لا يمكن إنجازها أبداً في إطار من الانسلاخ الثقافي. ذلك أن الانسلاخ (وببساطة شديدة) هو الضد من النهوض، وبهذا تكون خطط التنمية الثقافية، في جو الانسلاخ القيمي، عديمة الجدوى، ولا غاية لها، لأن الغاية الوحيدة المعتبرة في عالمنا المتأخر حضارياً، هي النهوض، وليس سواها.
لا فكاك، إذن، وفي كل الأحوال، سواء بالانفتاح الثقافي أو بعدمه، من تدخّل الحكومات ومؤسسات الحكم المحلي، خدمة لعملية التنمية الثقافية، وضماناً لجودتها وجدّيتها، بما ينسجم مع الأهداف الكبرى للتطوير المجتمعي.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.