عودة السؤال الأخلاقي في الفكر المعاصر

عودة السؤال الأخلاقي في الفكر المعاصر

07 أكتوبر 2017

(سمعان خوام)

+ الخط -
العقائد والأخلاق ثنائية يرددها المسلمون، تعبيراً عن المشترك الديني التاريخي بين الرسل وما جاؤوا به، فيما تنفرد الشرائع بالاختلاف والتنوع تبعاً للأعراف، ولئن أخذت العقائد والشرائع حقها من الدرس والتنظير والجدل في الدراسات الإسلامية، حتى استقرت مذاهبها، واتضحت اتجاهاتها، فإن الأخلاق على أهميتها في المكون الديني لم تأخذ حقها من الدرس والتنظير العلمي، إذ طغى على الاهتمام بها الجانب العملي السلوكي، ممارسة ووعظاً، وخصّت بالتصنيف جمعاً للأخبار المتصلة بمكارم الأخلاق (ابن أبي الدنيا، الخرائطي، الطبراني) أو تنظيراً من مدخل التصوف السلوكي (الغزالي) أو من المدخل الفلسفي (ابن مسكويه)، فظل الدرس الأخلاقي في التراث حبيس كتب الأخبار والمواعظ والتصوف، أو فرعاً من فروع الفلسفة، ولم يستقل علما نظير علوم الفقه أو الكلام.
أما في العصر الحديث، فقد اهتم بموضوع الأخلاق الإصلاحيون، فاختصر جمال الدين القاسمي كتاب الغزالي "إحياء علوم الدين"، وأدرجت الأخلاق موضوعا تربويا مستقلا عن التربية الدينية في المدارس النظامية، في مصر وبلاد الشام خصوصاً، فصنف أحمد أمين مقرراً مدرسياً يحمل عنوان "الأخلاق،1921"، كما صنف المصري أحمد سعيد الدجوي كتاباً اشتهر وانتشر في مدراس التعليم الشرعي، بعنوان "فتح الخلاق في مكارم الأخلاق" طبع عام 1926، ثم تلاشى لاحقاً استقلال الأخلاق مقرّرا مدرسيا ليصبح فصولاً من مقرّرات التربية الدينية.
وفي الحقل الأكاديمي، لم يغادر الدرس الأخلاقي حقل الفلسفة، كما لم يستقل ضمنها عربياً 
كتخصص في التعليم العالي، وقلما أفردت بالدراسة. وفي السياق الفلسفي، تابع الأكاديميون العرب الدرس الأخلاقي –الفلسفي، تبعاً للمدارس التي ينتمون إليها (المدرسة الاجتماعية، الوضعية، النفعية، الوجودية، القومية، ...)، وكثرت الترجمات المتصلة بالنظريات الأخلاقية، لاسيما عن الفرنسية، لذا اشتهر كتاب محمد عابد الجابري "العقل الأخلاقي العربي- 2001" نصا فريدا في مجاله، نظراً للفراغ في المكتبة العربية الناجم عن خلوّها من الدراسات الشاملة والتحليلية النقدية لنظم القيم في الثقافة العربية الإسلامية، وكذلك في تاريخ الفكر الأخلاقي العربي، كما لم تعرف الجامعات العربية فيلسوفاً متخصصاً في الأخلاق، قبل المغربي طه عبد الرحمن، الذي أفرَد جلّ مؤلفاته للقضية الأخلاقية من منظور إسلامي وخلفية فلسفية، وتقارن نظريته بأعمال هبرماس الألماني.
على الرغم من أن معظم ما كتب عن الأخلاق الإسلامية مرتبط بالسلوك والأخلاق العملية، إلا أن السؤال الأخلاقي –الإسلامي (النظرية الأخلاقية الإسلامية) لم يغب عن الدرس الأكاديمي في القرن الماضي، لكن الجهود في مقاربته ظلت فردية ومتأثرة بظروفٍ خاصة، اقتضت إثارته خارج العالم العربي (دراز، راهبار، إيزوتسو، الفاروفي، فضل الرحمن،..)، في وقت كانت حقول الدراسات الإسلامية مشغولة بالتحولات القسرية التي فرضت على التقليد الإسلامي، فشغلت مباحث مقاصد الشريعة جهود الفقهاء المحدَثين، بحثاً عن حلول للمآزق المعاصرة، إلا أن جهودهم انتهت إلى آفاق مسدودة، لم تقدم حلولاً متكاملة لمشكلات المسلم المعاصر المتنامية، كما واجهت المسلمين تحدياتٍ جديدة، تتصل بأسئلة أخلاقية، يرتبط بعضها بالعلم الحديث، وأخرى أحدث منها تتصل بمكانة الفرد وحقوقه وعلاقته بالدولة في المجتمعات المعاصرة، وكذا الصلة بين متطلبات التحديث في مختلف المجالات والمبادئ الأخلاقية. ولعل الحدث الأبرز الذي فَعّل السؤال الأخلاقي عربياً وإسلامياً هو أحداث الربيع العربي الذي وضع الموقف الأخلاقي فسطاطاً بين فريقين، متجاوزاً الأديان والطوائف والأعراق، بل يوحدها في موقف أخلاق مشترك، فريق يناصر الحقوق ويدافع عن المظلومين في مطالبهم العادلة، وفريق يشارك أو يبرّر الاستبداد والقمع الذي استجمع في بعض صوره أوصاف الجريمة المكتملة الأركان. ولم يخل الفريقان من نخبٍ ممن يعدون من المثقفين والمفكرين ورجال دين، ما عمّق الإشكال الأخلاقي-الديني في النظر والممارسة، وزاد الإشكال الجدل والتخبط في تكييف الدراسات الإسلامية لنظرية الدولة الحديثة، فأضفت عليها بعض الدراسات الأخلاقية الغربية بشأن الصلة بين الأخلاق والحداثة أسئلة جديدة، وكان لدراسة وائل حلاق "الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي، 2014" أثرها في إثارة الجدل المتصل بالسؤال الأخلاقي- الإسلامي.
امتداداً للنشاط الأكاديمي الحديث، المتصل بالسؤال الأخلاقي - الإسلامي في الحقول الاجتماعية والفلسفية، خصص المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في مارس/ آذار2017 أحد محوري مؤتمره السنوي للعلوم الإنسانية والاجتماعية لموضوع "سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية" . وتناول بالنقاش محاور متعدّدة تتصل بالسؤال الأخلاقي من زوايا نصية وفلسفية واجتماعية وقانونية وعلمية، منها ما هو تاريخي، ومنها ما يتصل بالواقع المعاصر. وكشفت أبحاث المؤتمر ومناقشاته عن عمق السؤال الأخلاقي، وصلته بمختلف المجالات البحثية، وعن قصور المقاربات العلمية في التنظير والإجابة عن هذا السؤال، لاسيما في حقل الدراسات الدينية التي هي أوْلى بالتخصص في مقاربة المسائل الأخلاقية.
في ظل هذا القصور العام في الدرس العلمي للأخلاق، يمكن القول إن حقل الدراسات الإسلامية كان الأسبق في المقاربة العلمية للسؤال الأخلاقي، فأبرز الدراسات الأخلاقية في القرن الماضي بادر إليها علماء في الشأن الديني، أو متخصصون فيه، والمركز العربي الوحيد المتخصص 
بالدراسات الأخلاقية "مركز دراسات التشريع والأخلاق، 2012" بادرت إلى إنشائه كلية الدراسات الإسلامية في قطر، والتي تقدم برنامجاً متخصصاً في الدراسات العليا عن "الفكر الإسلامي والأخلاق التطبيقية"، وتوجت جهود الكلية بإصدار مجلة محكمة هي مجلة الأخلاق الإسلامية، تعنى بالدراسات الأخلاقية، وتصدر بالشراكة مع دار بريل في هولندا. ويعد صدور العدد الأول منها في يوليو/ تموز 2017 إضافة مهمة في الدراسات العربية عموماً، والدراسات الإسلامية خصوصاً، فهي أول مجلة محكمة، متعدّدة اللغات، تصدرها دار بريل العريقة بالشراكة مع جامعة بالعالم العربي. ومن شأن هذه الشراكة أن تضفي عليها صرامةً أكاديمية، من خلال خضوعها لضوابط تقليد أكاديمي غربي عريق في التحكيم والنشر، وتعد أول مجلة عربية وإسلامية متخصصة في الدراسات الأخلاقية، وهي متوفرة مجاناً لجميع الباحثين على شبكة الإنترنت. وقد تميز العدد الأول منها بوضع الدراسات الأخلاقية الإسلامية في سياقها العلمي والتاريخي، من خلال دراسات تناولت الأخلاق وصلتها بالقرآن الكريم من زوايا تاريخية ومصطلحية ومقاربات حديثة، إضافة إلى دراسات عن الصلة بين الأخلاق والفلسفة وعلم الكلام والفقه. وما تتميز به المجلة أنها لن تقتصر على الجانب النظري لعلم الأخلاق، إنما تتناول أيضاً الأخلاقيات التطبيقية في أبعادها العلمية والاجتماعية، وسيكون محور العدد المقبل عن الجينوم البشري الذي كان موضوع إحدى جلسات مؤتمر المركز العربي.
مؤشر النهوض في أي مجال هو عمق الدراسات حوله، والحيز الذي يأخذه من اهتمام الجامعات ومؤسسات البحث العلمي، ويحتاج المأزق الأخلاقي الذي يمر به العالم العربي، لاسيما على مستوى النخب والمؤسسات (الديني منها خصوصا) نقدا أخلاقيا عميقا، وإحياء الدرس الأخلاقي في المجال الأكاديمي (دراسات، مؤتمرات، مجلات، مراكز...) يعد مؤشراً إيجابياً يعبر، في حده الأدنى، عن الوعي بالانسداد الأخلاقي الذي لا يخص العرب والمسلمين، لكنهم الأجدر بالاهتمام به، بوصفهم أبرز ضحاياه.