هل الانفصال بديل لحل أزماتنا؟

هل الانفصال بديل لحل أزماتنا؟

05 أكتوبر 2017
+ الخط -
يقول المثل الشعبي المتداول كثيرًا في منطقتنا: "وزع النهر سواقي وشُوف ماذا تلاقي". ما تشهده منطقة الصراع في سورية والعراق يستحق أن يُرفع لأجله هذا الشعار، فالعالم المتحضر سعى إلى بناء دوله القائمة على أسسها الحديثة التي يشكل دعائمها الديموقراطية والمواطنة وحماية الحقوق والقانون والمؤسسات وتداول السلطة، وإلى ما هنالك مما يضمنه الدستور الذي يتشارك الشعب في وضعه، بما يضمن مساهمة جميع أفراده في واجباتهم ونيل حقوقهم بالتساوي، بغض النظر عن أي انتماء عرقي أو ديني أو لوني أو جنسي، وصون الحريات للجميع.
والكلام عن نية إقليم كردستان العراق للانفصال وتأسيس دولته الخاصة القائمة بشكل أساسي على "القومية الكردية" ضمن محيطٍ من الدول القومية، والقومية الدينية أحيانًا، ذات الأنظمة الشمولية البعيدة كل البعد عن الدول الحديثة، القائمة على الاستبداد، ومن دون إغفال السياق التاريخي، وما عاملت به الأنظمة القومية العروبية، إن كان في العراق أو سورية، الكرد في المنطقة، والصراع الدائم أيضًا بين الكرد في تركيا والأنظمة التركية المتوالية، مع الأخذ بالاعتبار طموحات الإسلام السياسي في إقامة الدول القائمة على المبدأ الشمولي الذي لا يعترف بالاختلاف أيضًا، إنما بعقيدة دينية، يحيلنا إلى الموضوع الكردي السوري الذي يتميز بخصوصيته الإشكالية التي عبرت عنها حكايةٌ، درج تداولها في مواقع التواصل الاجتماعي. لا أعرف اسم الذي كتبها، لكنني من المستخدمين الذين وصلت إليهم هذه الحكاية التي تقول إن لاجئًا كرديًا من الحسكة في سورية في أثناء تقديمه طلب لجوء لدى الدولة الألمانية، جرت محاورة بينه وبين الموظفة الألمانية بواسطة مترجم كان فحوى الحديث:
بدايةً، اعترض صاحب الطلب على أن يكون تعريفه سوريًا، فطلب التصحيح إلى كردي. وعندما سألته ما إذا كان من كردستان العراق، أجاب بالنفي، وأنه من الحسكة، وإذ ترد 
الموظفة بأن الحسكة في سورية يصحح لها بأن هذا احتلال، وأنهم شعب لهم تاريخهم ولغتهم والنظام السوري قمعهم، فتسأله هل معك مستنداتٌ تثبت أنك كردي من الحسكة، قال إن معه مستندات "سورية"، فاعترضت الموظفة قائلة: أنت تقدم لي مستنداتٍ من سورية التي لا تعترف بها. فقال متأسفًا إنه ليس لديه مستندات كردية، لكنه لا يريد اعتباره سوريًا أبدًا، فردت الموظفة المتورطة في مشكلة غير مفهومة: حسنًا، أنت كردي مقيم في الحسكة، لغتكم هي الكردية، مضطهد من النظام السوري. لذلك سأطبع لك نص القانون باللغة الكردية، لتطّلع عليه قبل أن توقع. فيبتسم لهذا الطرح، لكنه يخبر المترجم أنه لا يعرف أن يقرأ الكردية، بل يحكيها فقط. لذلك يريد أن تطبعها بالعربية.
احمرت الموظفة، وسألته هل قاتلت ضد النظام السوري الذي اضطهد حقوقكم؟ أجابها إنه قاتل مع النظام، لأن عصابات "داعش" وجبهة النصرة والجيش الحر هاجمتهم، وهم قاتلوا الإرهابيين مع النظام. كيف سأكتب أنك هاربٌ من النظام، وتقاتل معه في الوقت نفسه؟ قال لها: هذا في البداية، فيما بعد صار لدينا قواتنا الخاصة الكردية، لندافع عن أرضنا. سألته: هل ارتكبت جريمة أو عملاً غير إنساني وأنت تحمل السلاح؟ قال: لا، حتى اسألي أسرانا، نحن لدينا أخلاقنا. إذًا أنت تريد اللجوء في ألمانيا خوفًا من النظام و"داعش" والمعارضة؟ نعم. هل اعتقلت أو صدرت بحقك مذكرة اعتقال؟ نعم، اعتقلتني القوات الكردية، وعاملتني بوحشية شديدة. الموظفة بعصبية: كيف اعتقلت وأنت تقاتل معهم؟ حصل خلاف بين الفصائل الكردية، فزجّونا في السجن، ثم هربنا إلى تركيا. لم تجد مكانًا تلجأ إليه غير تركيا؟ لماذا لم تبقَ في تركيا؟ لأن الأتراك يعتبروننا إرهابيين ويلاحقوننا. تبتسم الموظفة ابتسامة اليائس: الآن فهمت: أنت من الحسكة، ولا تعترف بالنظام السوري الذي حاربت معه، ولا تقرأ الكردية وتريد إنشاء دولة كردية في الحسكة بالقيادة الكردية التي هربت من قواتها. هل هناك شيء آخر؟
ماذا عن دورات اللغة المجانية للسوريين؟ الموظفة: لكنك قلت إنك لست سوريًا، ولا تريد أن تعامل مثل السوريين. اللاجئ: لدي بطاقة هوية سورية، ألم أقدمها لك؟ لا داعي للحديث عن الحالة العصبية والنفسية للموظفة الألمانية التي تعيش في دولة حديثة قائمة على مبدأ المواطنة والقانون والمؤسسات والتداول السلمي للسلطة والدستور الذي يضمن الحقوق.
تحمل هذه القصة المؤثرة نقاطا كثيرة تعتبر قاعدة بيانات لدراسات نقدية، تطاول الواقع والثقافة الموروثة والتجارب التاريخية لمنطقتنا التي لا يمكن إقصاء الشعب الكردي عنها، بل هو جزء فاعل ومنفعل فيها، فالاستفتاء الذي جرى في إقليم كردستان العراق على أساس حق الشعوب في تقرير مصيرها، وحصل على نسبة 92% بالإيجاب، لا يمكن اعتباره شأنًا شعبيًا معرفيًا، بل هو استجابة عاطفية بالدرجة الأولى، ناجمة عن تاريخٍ من الإقصاء والصراعات والهيمنة القومية، وعن المحنة الحالية التي تمر بها المنطقة التي لم تبق جهة سياسية أو دولة فاعلة أو قوة إقليمية أو عالمية لم تتدخل بزخمها، عسكريًا ولوجستيًا وسياسيًا، فيها، وسخّرت ما أمكنها من قوة في الحرب الإعلامية لتكريس أجنداتها التي تصب، في النهاية، في مصلحة تفتيت الأوطان وتكريس التفرقة والعصبيات بين مكونات الشعب.
لم تتكرّس العلمانية التي ادّعتها الأنظمة الحاكمة في سورية والعراق. في الواقع في ظل الشمولية التي أمسكت الشعوب بقبضةٍ استبداديةٍ حديدية، ولم يكن فصل الدين عن الدولة أكثر من شعارٍ فارغ، لم تبرهنه الممارسة التطبيقية، ولم تسعَ تلك الأنظمة إلى النهوض بالمجتمع، وحل مشكلات الفقر والجهل، وإحقاق الحقوق والحريات وحماية الاختلاف، وبقي التمييز ممارسًا ضد الأقليات بكل انتماءاتها، وسعت إلى تدعيم ركائز حكمها أصلاً على التفرقة، وادعاء سلطة الشعب، بينما تبني استقرارها على العسف والظلم والقمع والتسلط والفساد. لذلك، كان من الطبيعي أن يكون طموح الشعوب في هذه المنطقة إقامة دولها الانفصالية، بدوافع 
عاطفية غير عقلانية، في غياب الوعي الممنهج، ولم تقدم لها النخب المسيطرة على القرار أي مقترحاتٍ أخرى، بل لم تقدم لها ما يرفع مستوى وعيها إلى مفهوم الدولة الحديثة، بل هي تعمل كما سابقاتها من النخب السياسية والحاكمة في المنطقة على فرض الحداثة من الأعلى، من دون إشراك الشعب بها. وبذلك تبقى ماسكةً القرارات التي تخدم مصالحها ورؤيتها للمصير المأمول.
صحيح أن لدى إقليم كردستان ثروة نفطية واقتصادا زراعيا وسياحيا وغيره، لكنه إقليم محاصر بريًا، ويحتاج إلى منفذ إلى البحر لتصدير نفطه وصادراته ووارداته، كما أنه لم يستطع ضمان موافقة القوى العظمى العالمية على قراره، والقضية التي طرحها ستضعه أمام تحديات صعبة وطويلة الأمد مع الدول المحيطة به، الرافضة لانفصاله. وهذا لا يعني أن هذه الدول بنت موقفها بدافع إيجابي، أو حريصة على مبدأ الاتحادات التي تمنح القوة، فهي في صراع دائم فيما بينها إلى الآن، ودائمة التدخل في شؤون بعضها بعضا، وهذا سبب أساسي للتفكير بطريقة أخرى، تجعل من إقليم كردستان ركيزة أساسية في دولةٍ قويةٍ بإعادة الاعتبار إلى التفاوض والحلول السياسية لمشكلات العراق الذي كان، في فترة سابقة، من الدول الرائدة والقوية في المنطقة. ولا بأس لأكراد سورية أن يفيدوا من التجارب التاريخية، ويُمعنوا الفحص والدراسة والتمحيص في واقعهم الحالي والتاريخي، من أجل الحصول على حقوقهم كاملة، ضمن دولة حديثة تقوم على المواطنة النزيهة من أي ترجيح أو تفضيل لفرد على آخر، ليس الشعب الكردي فقط، بل الشعب السوري بكل أطيافه وانتماءاته القومية وغيرها، من مصلحته أن يعيد النظر في تجاربه ومبادئه ومنظومات معارفه وقيمه، متحررًا من ثقافة القومية الشوفينية والعقائد الدينية، عملاً بالمثل الذي يحذر من توزيع النهر إلى سواقي.