تونسيون خارج مقاعد الدراسة

تونسيون خارج مقاعد الدراسة

05 أكتوبر 2017

طلاب تونسيون يقدمون امتحانات البكالوريا في تونس (4/6/2014/فرانس برس)

+ الخط -
تعد المنظومة التعليمية ركناً من أركان التنمية البشرية الشاملة، ورافعة للتطوّر وحاضنة للأجيال الصّاعدة في الدول المتقدمة، ولعبت المؤسسات التربوية والجامعية دوراً مركزياً في تكوين النخب التونسية إبّان الاستقلال، وأنتجت كوادر على درجة عالية من الكفاءة في مختلف المجالات، وكانت المدرسة التونسية، على مدى عقود، قِبلة الطلبة الأفارقة والعرب في شُعَب التحصيل المعرفي المختلفة، ونجحت البلاد في تصدير الطاقات الإبداعية التونسية إلى الخارج (أساتذة، أطباء، مهندسون… ). وكان التعلّم على مدى سنوات بعد الاستقلال جسر عبور إلى سوق الشغل، فكثيرا ما اقترنت الدّراسة بمطلب التوظيف في القطاع الحكومي. لكنّ الأمر لم يعد كذلك منذ تسعينيات القرن الماضي، إذ تكاثرت على التدريج أعداد الخرّيجين من الجامعات، وانتشرت البطالة، وتراجعت نسبة المواظبة على الدّراسة في المؤسسات التعليمية، وتزايدت نسب التسّرب، والانقطاع عن طلب العلم في المرحلة الابتدائية أو الثانوية أو الجامعية.
وتفيد إحصائية صادرة عن المعهد الوطني للإحصاء سنة 2010 بأنّ نسبة الأمّية في صفوف الشباب الذي تتراوح أعمارهم بين 20 و24 سنة تقدّر ب 3.5 % وترتفع إلى 5.9 % مع الفئة العمرية (25-29 سنة)، وتبلغ درجة 9.2 % بالنسبة إلى الشباب في سن 30-34 سنة. وجاء في تقرير صادر عن البنك الدولي سنة 2014 بعنوان "تونس.. إزالة الحواجز أمام الشباب" أنّ "أغلب الشباب التونسي ينقطع عن الدّراسة قبل الحصول على 
الشهادة الثانوية بوقت طويل (...) وأنّ أكثر من 140 ألف طالب يتسرّبون من مسالك الدّراسة سنويا من بينهم 80 ألف يتركون مقاعد الدّراسة من دون إتمام مرحلة التعليم الأساسي". ومعلوم أن التسرّب من الحاضنة التعليمية، على اختلافها، يؤثر سلبا على المستقبل المهني للشباب، ويجعلهم يواجهون صعوباتٍ جمّة في الحصول على عمل. وذلك لمحدودية زادهم المعرفي من ناحية، ولأنّ ما لا يقلّ عن ثلثي المنقطعين عن الدّراسة لم يتلقوا أيّ تدريب بعد خروجهم من المؤسسّات التعليمية، ما يجعل ثقة المشغلين بكفاءتهم ضئيلة، وإقبالهم على انتدابهم محدودا.
ويمكن تفسير ظاهرة العزوف عن مواصلة الدراسة في صفوف الأجيال الصّاعدة في تونس بعدّة أسباب، أهمّها تراجع قيمة التعليم والتعلّم في الوعي الجمعي التونسي، نتيجة تزايد العاطلين عن العمل من أصحاب الشهادات العليا، واعتقاد كثيرين أنّ استكمال المشوار الدّراسي لا يعني بالضرورة الظفر بوظيفة حكومية ومورد رزق قار، فتراجع العائد الاقتصادي لمشروع الدّراسة داخل الأسرة جعل كثيرين يعتبرون المؤسّسات التعليمية حواضن لتخريج العاطلين. لذلك، تتزايد نسب التسرّب في مختلف الشعب الدراسية. كما أنّ تغيّر سلّم القيم، وسعي شبابٍ كثيرين إلى تحقيق الرّبح السّريع عبر الانقطاع المبكر عن الدراسة، والتوجه إلى العمل في قطاع الأعمال (التجارة، الخدمات...) وانخراط آخرين في مهواة التنافس على ألعاب الرّهان (البروموسبور، دليلك ملك...) والبحث عن سبل الهجرة إلى أوروبا، ولو بطرق غير مشروعة طمعا في ثراء وهمي، يُغري آخرين بترك مقاعد الدّراسة. وجاء في المؤشّر العربي الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات سنة 2016 أن 52% من الأسر التونسية تواجه صعوباتٍ في تأمين حاجاتها المعيشية، ويحول ذلك دون مواصلة عدد من الشباب 
مشوارهم الدراسي لقلّة ذات اليد. كما أنّ تراجع المتابعة الأسرية لأداء التلاميذ والطلبة، بسبب انشغال أولياء أمورهم بالعمل، وضغط مشاغل الحياة اليومية يؤثر سلبا على مردود الأبناء الذين يجدون أنفسهم في حِلّ من كلّ مراقبة فتزداد نسب غيابهم ورسوبهم، ويجدون أنفسهم بعد ذلك خارج مقاعد الدراسة. ومعلوم أنّ ضعف العلاقة الاتصالية بين المؤسسة التعليمية والأسرة مؤدّ إلى تزايد حالات التسرّب لا محالة. يُضاف إلى ذلك أنّ افتقار المؤسّسات التربوية في المناطق الدّاخلية والطرفية للكادر التعليمي الكفء والقار، وبُعدها عن مواطن العمران، يزيدان من نفور المعَلّمين والمتعلّمين منها. والمؤكّد أنّ غلبة الجانب النظري على البرامج الدّراسية وكثافتها وعدم ملاءمتها متطلّبات سوق الشغل، ومحدودية فرص الترفيه والترويح عن النفس في الفضاء المدرسي، أو الجامعي، يجعل المتعلم يشعر بأن الدراسة تكليف ثقيل وعمل روتيني، يرهق النفس والذهن والجسد، ويورث الإحساس بالملل، ويدفع كثيرين إلى مغادرة مقاعد الدراسة مبكّرا. ومعلوم أنّ تعثر مشاريع إصلاح التعليم وبُطء تفعيل مقاربات التجديد البيداغوجي، ومحدودية جهود تطوير وسائل التواصل وأدوات التعليم التفاعلي التشاركي داخل الفصل وخارجه، وقلّة استخدام الوسائط الرقمية المتعددة في تأمين عملية التدريس، ذلك كله جعل المتعلم غير شغوف بمواصلة المشوار الدراسي.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.