مع عماد حجّاج وشجباً لثيوفيلوس

مع عماد حجّاج وشجباً لثيوفيلوس

01 نوفمبر 2017
+ الخط -
التحقيق في عمّان مع الزميل الفنان عماد حجاج، ثم الإفراج عنه، لن يكون النهاية، فقد سجلت دعوى ضده، ومثل أمام المدّعي العام، على خلفية رسم كاريكاتيري، عبر بوضوح فيه عن رفضه ما يجري من بيوع وتأجير طويل الأمد لأملاك للكنيسة الأرثوذكسية في فلسطين للإسرائيليين وغيرهم.
رسم حجاج السيد المسيح مصلوباً على الخشبة وهو يتبرأ من البطريرك ثيوفيلوس وأتباعه الذين باعوا أملاك الكنيسة لسلطات الاحتلال وجمعيات استيطانية وجهات خارجية مشبوهة، وكتب في الكاريكاتير "أنا المسيح عيسى ابن مريم أعلن براءتي من البطريرك ثيوفيلوس الثالث وكل من تورط في بيع أملاك الكنيسة الأرثوذكسية الشريفة للاحتلال الإسرائيلي".
في الحقل التاريخي العلمي اليوم، باتت اللغة الكاريكاتيرية من مصادر التاريخ اليومي، فالرسام يُلخّص المجتمع وما يدور فيه برسمٍ أحياناً، مشفوعاً بتعليقٍ أو يكون صامتاً. وقد اختار عماد حجاج أن يساهم في الجدل الدائر الذي بات محيراً، خصوصا في ظل الصمت الرسمي الأردني عما يفعله البطريرك ثيوفيلوس. وفي هذا المسار، يخرج النائب الأردني السابق، عودة قواس، العضو في لجان كنيسة أرثوذكسية عديدة، مهدداً الأب عطالله حنا، ومتوعداً له عبر صفحات على "فيسبوك"، بالفضح والكشف والصولات والجولات المقبلة، لم يقل عن ماذا، لكن موقفه يراه بعضهم في سياق دفاع قواس الدائم عن البطريرك ثيوفيلوس.
لا يعوّل على انقسام البيت المسيحي، أردنياً وفلسطينياً، في مسألة بيع الأرضي والأملاك، فجل المسيحيين على قلب واحد، وأنصار البطريرك المدافعون عنه منتفعون منه برأي بعضهم، والبقية يرفضون الأمر ولا يقبلونه، ويطالبون برفع يد البطريرك اليوناني الذي تورّط، هو وأسلاف له، في عدة قضايا، كشفت بعضها الصحف العبرية بالوثائق.
وقد توقف بحث لكاتب هذه السطور عن المسيحيين الأردنيين، عرضه قبل أيام، في مؤتمر
المركز العربي للأبحاث والسياسات، في الدوحة، عند قضية بيع الأراضي وتأجير الأوقاف المسيحية تأجيراً طويل الأجل، وجاء فيه: إن هذه المسألة تعد أحد أبرز تحديات الوجود المسيحي أردنياً وفلسطينياً وعربياً، والسبب ليس لكونها مسألة خطيرة، لا يحق فيها للبطريرك التصرّف، بل لأنها تُحدثُ انقساماً بين المسيحيين في الأردن وغير مكان، بين مدافع عن الأملاك والهوية والتاريخ والوجود العربي المسيحي ورافض لبيع الأملاك وتأجيرها بشكل فاضح، وبين أنصار البطريرك اليوناني ثيوفيلوس المتمتع بالحصانة".
ما القصة؟ وما علاقتها بالنضال العربي الفلسطيني الأرثوذكسي لاسترداد عروبة الكنيسة؟ تعد البطريركية اليونانية الأرثوذكسية ثاني أكبر مالك عقارات في فلسطين، بعد "سلطة أراضي إسرائيل". وبفعل سياسات البيع والصفقات المشبوهة، تراجع حجم العقارات، بشكل كبير. وهذه الصفقات تؤجر فيها البطريركية العقارات فترة تصل إلى 99 عاماً، وبعد انتهاء المدة تصبح العقارات "المؤجرة" ملكاً للجهات التي دفعت ثمنها، كما أن ثمن المباني الموجودة في هذه الأراضي يقدر بمئات الملايين. وتتحجج البطريركية اليوم بأن ما تقوم به هو حماية من الدعاوى اليهودية والضرائب الكبيرة، وأنها بذلك تحمي أملاكها بصفقاتها. وللمسألة أيضاً بعد عربي في الصراع على مرجعية الكنيسة الأرثوذكسية التي سحبت من العرب، وأعطيت لليونان منذ تعيين أول بطريرك يوناني في كنيسة القدس، هو البطريرك جرمانوس (1534-1579) والذي عيّنه الباب العالي العثماني، حيث أصبح تعيين البطاركة في القدس آنذاك منوطاً بسلاطين دار السعادة. ومنذ ذلك الحين، عمل جرمانوس وخلفاؤه على إضعاف الوجود العربي وتذريره، وتقوية جمعية أخوية القبر المقدس للحفاظ على المصالح اليونانية. وشمل ذلك تعيين الكهنة العرب في بلاد بعيدة، وفي غير بلدانهم.
حاول العرب لاحقاً استعادة الوجه العربي للكنيسة، ويواصلون المحاولات حتى اليوم بلا طائل. ففي نهاية القرن التاسع عشر، بدأت وجوه عربية أرثوذكسية معركة الاسترداد، ومواجهة أولى بانتفاضة أرثوذكسية عربية في القدس عام 1860، تنتهي ببطش السلطنة التي أقرت عام 1875 أول نظام كنسي لكنيسة القدس، وهو أول نظام يصدر عن سلطة مدنية غير دينية، وحدّد مهام المجمع المقدّس (السينودس) وكيفية انتخاب البطريرك. ولم يراع النظام حقوق العرب. وتكررت المحاولة مع المشروطية الثانية عام 1908، إذ احتلّ الأرثوذكس دار البطريركية في القدس، والكنائس والأديرة، وفرضوا الصلاة باللغة العربية، ومرة أخرى تواجه السلطات العثمانية الأمر بالقمع والبطش. وفي زمن الانتداب، استمر الوضع، واتصل بالقضية الوطنية للفلسطينيين، وقامت الجمعيات الشبابية والنسائية المسيحية الفلسطينية بعد 1918 بداعي مقاومة بيع الأملاك ومقاومة الوجود اليهودي بحملات عديدة، وهذا ما كشف عنه الزعيم الصهيوني، حاييم وايزمان، في ملحق يتعلق بالقضية العربية يعود إلى العام 1919. ولاحقاً، يتأسس النادي الأرثوذكسي في القدس عام 1924، ثم في يافا وفي عكا 1929، ويدافع النادي عن عروبة فلسطين، وهويتها. وفي الثلاثينيات من القرن العشرين، عُقدت عدة مؤتمرات أرثوذكسية للدفاع عن الأراضي، وتتشكل عام 1934 اللجنة التحضيرية للمؤتمر المسيحي برئاسة الخوري يعقوب حنا، والتي دعت إلى عقد مؤتمر في القدس في 29-8-1934، أعلن بيانه تمسكه بالميثاق الوطني الفلسطيني (1922) وبمطالب البلاد وحقوقها، وطالب الفلسطينيين بعدم الرضوخ لكل إغراءات البيع.
يعود اليوم الجدل طويل الأمد، بشأن البيع والـتأجير، والذي بدأ قبل نحو مائة عام، يوم بارك المندوب السامي البريطاني عام 1921 بيع قطعة الأرض المعروفة باسم "بستان أنتيموس"، والتي أقيم عليها المركز التجاري اليهودي في القدس الغربية. ثم لحق به بيع البطريركية قطعة أرض في جبل أبو غنيم للصهاينة، بنيت عليها مستوطنة بين القدس وبيت لحم. ويُعين عام 1985 البطريرك ثيودوروس الأول، الموظف السابق في دائرة أراضي إسرائيل اليهودي حاييم كاهاتي، مسؤولاً عن إدارة أملاك الوقف التابع للطائفة الأرثوذكسية، وتتضاعف الأزمة في حياة ثيودوروس ومماته، فلم يترك سجلاً يشفع له بسمعة طيبة، إلا بدور غامض في نقل الأملاك وبيعها وإجراء الصفقات المشبوهة.
وبين شعور بأن هؤلاء البطاركة غير معنيين بالهوية والمكان، فهم غير عرب، بل شغلهم 
بالصفقات والثراء، ومواجهة ثقافية وقومية، يأتي إيجاد التابعين للبطريرك والمروجين غاياته ومن جاء بعده، ويحدث ذلك كله مع وجود التبرير والتدبيج والإنشاء البلاغي المبجل لدور البطريرك في حماية الرعية، وضرورة الحفاظ على عدم انقسامها. ولكن كيف لذلك أن يحدث وهو يبيع الإرث؟ لذلك، ينشط المسيحيون المخلصون لوطنهم وأرضهم في فلسطين والأردن في تأكيد أن ما يجري اليوم هو تحت عين الكنيسة، وبصمت أردني مريب، ومصدر الريبة تمتع الأردن بحق الرعاية / الولاية الهاشمية على المقدّسات الإسلامية والمسيحية، والذي فوضه إياه الفلسطينيون بتوقيع اتفاق الوصاية الهاشمية في مارس/ آذار 2013، والذي يحمّل الأردن مسؤولية الدفاع عن المقدسات والأوقاف، إسلامية ومسيحية.
ولم تقف شبهة البيع التي لاحقت البطريرك ثيودوروس، حين كان متولياً حقوق الرعية، عند حدود البيوع، لتبدأ بعد وفاته في العام 2000 الفواجع والأخبار والوثائق عن الصفقات المشبوهة، خصوصا أن أكبر الصفقات قيل إن توقيع البطريرك عليها كان مزوراً في أثناء مرض وفاته، والتي أدت لاحقاً لتنافس ثلاثة من الأساقفة البارزين على كرسي البطريركية انتخابياً. ليأتي بعده من مارس الدور نفسه. وبعد خمس سنوات، يكتب داني روبنشتاين، سنة 2005 في صحيفة هآرتس مقاله "البطريركية تحولت فرعا للوكالة اليهودية"، وفيه أن جوهر الصفقة التي تحدثت يومها عن بيع ممتلكات البطريركية، في ميدان عمر بن الخطاب في القدس، ليس واضحاً، وأثارت حالة من التململ والهيجان في أوساط السلطة الوطنية، وبين الجالية المسيحية في القدس والأردن وحتى في اليونان. وذكّر روبنشتاين بإعلان وزارة الخارجية اليونانية أنه لا قيمة قانونية للصفقة المزعومة، إذا ما كانت تمّت، وأنها ستكون منافية لقانون الكنيسة، وتمت من دون علم المجمع الكنسي المقدس.. وأوضح أن البطريركية أشبه بمملكة صغيرة، يسيطر عليها البطريرك الذي لا توجد من فوقه صلاحية أخرى.
وأعيد الجدل في 2016، بعد أنباء عن إبرام صفقة بيع أراضٍ وقفية تابعة إلى الكنيسة الأرثوذكسية (اليونانية) في القدس، تقدر مساحتها بنحو 500 دونم، ونقل ملكيتها إلى الاحتلال الإسرائيلي. وفي العاشر من يوليو/ تموز 2017، أصدرت كنيسة الروم الأرثوذكس بياناً توضح فيه قضية بيع أراض للاحتلال الإسرائيلي، وجُلّ ما فيه أنها تحفظ حقها المالي في الأراضي المحتلة، والتي أصبحت في مناطق سيطرة إسرائيل منذ 1951، وهو بيان لا ينسجم مع الوثائق التي تثبت علميات البيع أو التأجير طويل الأمد، ولا مع تاريخ البيوع السابقة ودور البطاركة اليونان الخفي، والذي يعترف به الإسرائيليون.
ختاماً، لا يمكن تتبع كل سردية البيع وقصصها، لكن رغم ما عبر عنه الزميل عماد حجّاج من موقف عروبي ووطني، ضد ما يجري من بيوع وتهويد، وجد البطريرك من ينصره، ويدّعي على عماد بأنه أساء للسيد المسيح عليه السلام، ونسي من باع الأرض.
F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.