قطعة جغرافية خارج التاريخ

قطعة جغرافية خارج التاريخ

01 نوفمبر 2017
+ الخط -
يروي آخر رئيس للاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، في مذكراته، واقعة تستحق أن تُحكى، يقول إن "انهيار الشيوعية لم يبدأ بسقوط جدار برلين سنة 1989، بل بانهيار المفاعل النووي في تشرنوبيل، قبل ذلك (1986). الكارثة التي نتجت عن تشقق مفاعل تشرنوبيل فتحت الباب للتعبير عن الحقائق، وأصبحت حقيقةً تجر إلى أخرى، مثل انهيار جليدي هائل.
تبين أن النظام القادر على بناء مفاعل نووي ضخم غير قادر على سد ثغرة صغيرة داخله، كانت تهدّد كييڤ عاصمة أوكرانيا. السويد البلد الصغير في شمال أوروبا هي التي أخبرت موسكو بالإشعاع النووي الذي وصل إلى أراضيها قبل يوم ونصف اليوم من إدراك السوفييت حقيقة ما جرى. ولما بدأ الخبراء السوفييت في مكافحة التسرّب أخطأوا عندما رشوا المصانع بالمياه لتبريدها، فكان أن تلوثت مياه الأنهار، وامتدت الآثار المدمرة إلى بلدان بعيدة، مثل تركيا، حيث تسمّمت الأراضي والمواشي. لم يكن المكتب السياسي للحزب الشيوعي يدرك حقيقة الأمر، ولم تنشر الصحف السوفييتية الخبر، لأن الصحافة كانت مراقبة… الكارثة فتحت المجال لحرية التعبير، والتفكير في هذا النظام الذي يرعب الغرب، وهو غير قادر على سد ثغرةٍ صغيرةٍ في بيته النووي".
بقية القصة معروفة، حيث لم ينفع مشروع البيريسترويكا في إصلاح ما أفسدته عقود من البيروقراطية والاستبداد، وجمود نظام لم يتكيف مع أحوال العصر، حتى تشمّع، وأصبح الاقتراب منه لإصلاحه شبه مستحيل، فانتهى إلى الانهيار... أخطر شيء يمكن أن يقع في أي دولة أو نظام هو الجمود، وعدم القابلية للإصلاح، وعدم القدرة على التكيف مع العصر، وجعل الحاضر ماضياً والمستقبل حاضراً.
الدولة الحديثة، في الأنظمة الديمقراطية، مثل الثعبان، تغير جلدها كل أربع أو خمس سنوات، فتتخلص من ضعفها، وتواجه حقائقها، وتنحني أمام غضب الناس من حكوماتها، عن طريق صندوق الاقتراع الذي يفتح المجال للتناوب الحقيقي على السلطة، بين الأحزاب السياسية، حيث يتقاعد من يحكم، ويصعد من يعارض في تداول سلس على إدارة السلطة والمال والجاه، من دون المساس بالدولة ومؤسساتها ودستورها وتقاليد الحكم والإدارة فيها.. لا تحتاج الدول الديمقراطية إلى ثورات، ولا إلى انقلابات، ولا إلى عواصف تأتي على الأخضر واليابس. كل أربع سنوات يذهب الناخب إلى صندوق الاقتراع، وهناك يقع الجزاء أو العقاب. بهذا المعنى، الدولة الحديثة غير خلدونية، لا تمر بأطوار الولادة والصعود والنزول، فلا عصبية قبلية أو دينية داخلها تقوى وتضعف مع الأيام، الدولة الحديثة تغير السياسة، لا النظام، وتغير الأشخاص لا المؤسسات، وتغير الأثاث لا المنزل، والذي لا يستطيع صندوق الاقتراع تغييره، تقوم وسائل الإعلام والمجتمع المدني ومؤسسات الحكامة والقضاء المستقل به، في إطار توازن السلطات، بفتح النظام السياسي على مدخلاتٍ كثيرةٍ لإنتاج مخرجاتٍ جديدة، تعبر عن حركية المجتمع، وثقافته ومصالحه وتطوره وآماله. ..هذا النموذج الذي نراه اليوم في جمهوريات وملكيات في أوروبا، وفي أميركا وبعض دول آسيا. نموذج لم يولد من عدم، ولم ينزل من السماء، سبقته حروب وصراعات وانقلابات ومجاعات وضحايا وثورات علمية وسياسية وفكرية وفلسفية، حتى استقر على النحو الذي نراه اليوم، كثمرات للحداثة السياسية، وللدولة الحديثة التي تُبنى على قوة الشرعية، وليس على شرعية القوة وخدمة الدولة للمواطن، وليس خدمة المواطن للدولة. .. إنه نظام غير مثالي، وفيه عيوب كثيرة، لكنه الأفضل بين كل الأنظمة السيئة الأخرى، وأولها الاستبداد.
كما أننا لن نخترع العجلة من جديد اليوم. لا يجب ولا يحق ولا يجوز لأحد أن يخترع نظاماً سياسياً وإدارة حكم غير الموجود على طاولة الكسب الإنساني والحضاري. نعم، يمكن تطوير أنظمة الحكم الحديثة، لتلائم العالم العربي والإسلامي، كما في كل البلدان الديمقراطية. لكن لا يمكن أن يبقى العالم العربي قطعة جغرافية خارج التاريخ، وخارج ديناميات التطور والتقدم التي تخترق العالم أجمع، وإلا سياتي يوم تعجز الدولة العربية عن سد الثغرات الصغيرة في بيتها، كما حصل مع الاتحاد السوفييتي.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.