هذه التبعية لمؤسسات دولية

هذه التبعية لمؤسسات دولية

31 أكتوبر 2017
+ الخط -
تمثل علاقات الارتباط بين الاقتصاد والسياسة مدخلا مهما فى فهم توجهات النظم، وتحليل السياسات العامة للحكومات، وتلعب المصالح الاقتصادية إطارا حاكما فى اختيار الحكومات وتشكيلها، بل ومجمل البنية السياسية التنفيذية والتشريعية. ولذلك يعد الفصل بين الحكومات والنظم فصلا وهميا وتعسفيا، فلا قرارات حكومية مستغلة وجائرة، بلا نظام متوحش يجنح إلى تحقيق مصالح فئات محدودة، ويظلم الفئات الأخرى، كما أنه لا يوجد نظام عادل يختار حكومات تطبق سياسات ظالمة، فالحكومات أدوات النظم فى تنفيذ السياسات العامة التي تمثل مصالح اقتصادية محدّدة، لم تعد مرتبطة بحدود قطرية لدولة ما، بل أصبحت ممتدةً بحكم عالمية النمط الاقتصادي القائم.
ويمثل الفصل بين الحكومات والنظم إحدى أدوات تزييف الوعي والخداع السياسي، وهو أسلوب متكرّر، يحاول من يستخدمه تبرئة النظم المستغلة من نتائج السياسات التي تؤدي إلى تراجع أحوال معيشة الشعوب، ويلقي هذا المنطق المغلوط التهم على الحكومات وأفرادها، بوصفها حكومات فاشلة. ومن جانب آخر، يروّج هذا الخطاب النظم عبر الدعاية المضللة التي تنطلق من أن النظام يهدف إلى تحقيق مصلحة المواطنين، بينما الحكومات غير قادرة على تنفيذ توجهات النظام الذي يمثله الرئيس.

يلجا المخادعون، من نخب سياسية وإعلامية، إلى مهاجمة الحكومات، ووصمها بالفشل، لتبرئة ساحة النظام من كل ما يلحق بالمواطنين من مظالم. وهنا تمثل الحكومات كبش فداء للنظام، وحائط صدٍّ يتلقى عنه سهام النقد، كما يعمل هذا الفصل بين الحكومات والنظم على تزييف وعي المواطنين، وتحويل الغضب ضد النظم إلى أفراد الحكومات، بحيث تتم تبرئة النظم من الجرائم التي ترتكبها. ينطبق الأمر هنا على الرؤساء السابقين، والذين ثارت ضدهم شعوبهم، حيث يرى أصحاب الفصل بين النظم والحكومات أن هؤلاء الرؤساء كانوا وطنيين منحازين للشعب، لكن الحاشية الفاسدة المحيطة بهم من حكومات نفذت توجهاتٍ ظالمة، ومارست صنوف الفساد والنهب. وبالمنطق نفسه، يعتبر الحكام ضحايا لا مجرمين، فالحكومات ومجموعات المصالح خدعت الرئيس، وأخفت عنه الحقائق، بل تآمرت عليه، أو في أحسن الأحوال أبعدته عن الشعب، فتغير من الرئيس الذي أعلن انحيازه للشعب من قبل، وتصديه للتبعية وجنوحه إلى الاستقلال الوطني إلى رئيس يفقد شعبيته، بسبب حكومته الضعيفة والمتردّدة المنحازة للفئات المستغلة. هكذا وببساطة، يتم إلغاء مسؤولية الرؤساء والحكام، ويتم تجاهل المصالح التي تحدّد سياسات النظم، ويتم أيضا نفي العلاقات المتشابكة بين مجموعات المصالح المحلية والدولية والنظام وسياساته، وتصبح المشكلة في الحكومات أو الفاسدين، بل يتجاوز الأمر المنطق، ليصرخ بعضهم بعبارات مثل "كلنا فاسدون"، فلا تحاسبوا السلطة.
ويمكن اليوم ملاحظة الارتباط الوثيق بين النظم الحاكمة والتكتلات المالية المحلية والدولية. وللحقيقة، ليس هذا الارتباط قاصرا على منطقتنا العربية، لكن الاستبداد ومظاهر السلطوية والقمع وغياب أدوات المحاسبة والمشاركة الشعبية تسمح لهذه العلاقات بالتمدّد بشكل أكبر.
يمكن القول إن رجال الحكومات في مصر تحولوا من ضامن لمصالح التكتلات الاقتصادية والمؤسسات المالية إلى كونهم جزءا من هذه المؤسسات. وفي هذا الصدد، يمكن الحديث عن الوزراء الذين ارتبطوا بالمؤسسات المالية الدولية، كصندوق النقد والبنك الدولي، أو الذين جاءوا من شركات مصرية ضخمة، ليتولوا مواقع اتخاذ القرار الاقتصادي أو العكس. وهذه المؤسسات بالطبع مرتبطة بدول عظمى، ما يطرح أسئلة عديدة ترتبط بعلاقات التبعية، بوصف أنها اختراق لمفهوم الوطنية.
بمراجعة سير أغلب وزراء المالية والاقتصاد والتجارة والتعاون الدولي ومسؤولي القطاع المصرفي، يتبين أن اختيارهم لم يخضع وحسب لمسألة الكفاءة والقدرات العلمية، كما يروج أصحاب نظرية حكم التكنوقراط، وإنما خضع أيضا لشروط، منها تنفيذ سياساتٍ تخدم مصالح الشركات الكبرى والمؤسسات المالية العالمية، وهؤلاء الوزراء من رجال النظم، أما كانوا أبناء لتلك المؤسسات، أو يتقلدون مستقبلا مناصب عليا، بعد تركهم مواقعهم الحكومية.
يمكن، على سبيل الاستدلال فحسب، إيراد أمثلة لرجال النظم الذين ارتبطوا بالشركات، أو المؤسسات الدولية التي تنهب الشعوب، فمن بطرس غالي ومحمود محيي الدين وزهير جرنة وأحمد المغربي قبل الثورة إلى رئيس الوزراء السابق حازم الببلاوي وداليا خورشد وسحر نصر بعد الثورة. وهؤلاء ارتبطوا إما بصندوق النقد والبنك الدولي، أو بالشركات الاستثمارية الكبرى، ونفذوا، من خلال مواقعهم الحكومية، سياساتٍ، وطبقوا إجراءاتٍ زادت من أرباح الشركات والعوائد المالية لمؤسسات الإقراض على حساب الشعب الذي يدفع ثمن القروض وتبعاتها، أو هيمنة تلك المؤسسات على السوق، واستغلالها المواطنين ونهبها الموارد.
وبجانب ذلك، يقوم النظم والرأسمال الخاص، على حد سواء، بالهيمنة على وسائل الاتصال والإعلام، بوصفها أدوات سلطوية وقمع ثقافي ضرورية، لاستدامة السلطة والربح عبر تشكيل وعي زائف.
وفي هذا السياق، يمكن فهم حجم الاحتفاء والتكريم الذي حظي به أخيرا رئيس البنك المركزي، طارق عامر، في أميركا على هامش اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين، لأنه اتخذ قرارات اقتصادية "جريئة"، كتعويم الجنيه، القرار الذي يتكامل مع خطة التقشف وزيادة الأعباء الضريبية على الفقراء. كما أن عامر اتخذ قرارات نقدية ألهبت ظهور المصريين بغلاء لم يسبق له مثيل، حيث تجاوزت معدلات التضخم 33%. وما قام به عامر وأصدقاؤه من
المجموعة الاقتصادية للحكومة المصرية هي ذاتها اشتراطات صندوق النقد والبنك الدولي، بل إن مراقبين كثيرين يرون أن الحكومة المصرية نفذت ما فاق توقعات صندوق النقد واشتراطاته.
إجمالا، يمكن القول إنه لا فصل بين النظام ورجال الحكومة الذين ينفّذون سياساته، كما أن سياسات النظم وقراراتها تعبير عن تحالف طبقي اجتماعي، يمثل مصالح محدّدة. وطبقا لمن يمثلهم النظام، تكون نوعية القرارات التي يتم اتخاذها، فالسياسات الاقتصادية العادلة تأخذ، في اعتباراتها، صالح الأغلبية، وهذا يستوجب تحقيق نمط تنمية يعتمد على الإنتاج لتوفير الخدمات والسلع وفرص العمل. أما السياسات الظالمة، فهي التي تهمل الإنتاج، وتفرض الضرائب، وترفع الأسعار، لتحصيل عوائد مالية، تمكّن النظم من تسيير حكمها، من دون القيام بمسؤولياتها وأدوارها الاجتماعية.
كما أن الارتباط الوثيق بين رجال الحكم والتكتلات الاقتصادية والسياسية الكبرى، والقرارات التي يتم اتخاذها، لا تنطلق وفقا لتوجه أيديولوجي، وإنما أصبح كثيرون من هؤلاء الحكوميين، بل والنظم، جزءا من تلك التكتلات المهيمنة على العالم.
لا يمكن تبرئة النظم، عبر تخيل أن بعض رجالها توظفهم التكتلات الاقتصادية لمصالحها، فالأصل في المسألة تبعية النظم، وخضوعها لتلك المؤسسات التى تشاركها النهب. وبسبب تلك التبعية، تختار النظم رجال حكوماتها، وتشارك رموز النظم وأجهزتها وأعمدتها الرئيسية عوائد النهب الذي تتعرّض له الشعوب والأوطان، كما تلعب وسائل تشكيل الرأي العام أدواتٍ مساعدة فى بسط هيمنة أيديولوجيا تلك التكتلات، وتروّج منطقها وتحفظ مصالحها. وتلمع رجالها وتقدّمهم نماذج ناجحة ورائدة اقتصاديا وسياسا. تتعدد أشكال النهب، وتتطور أدواته، لكن ذلك لا يخفي توحشّه، مهما تجمل وحاول إخفاء (أو تجميل) أنيابه وأظافره بمساحيق دعائية.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".