ما العمل بعد انتخابات يونسكو؟

ما العمل بعد انتخابات يونسكو؟

31 أكتوبر 2017

أودريه أزولاي أمام مقر يونسكو قبل فوزها (13/10/2017فرانس برس)

+ الخط -
هذا تعليق على التعليقات العربية بخصوص الانتخابات التي جرت أخيراً لمنصب المدير العام لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، وخصوصاً نتائجها. وسأتوقف لدى بعض الكلمات و/أو المصطلحات التي جرى استخدامها بكثافة ملفتة في وصف ما آلت إليه العملية الانتخابية. وغرضي من هذا، هنا أيضاً، تبديد مجموعة من المغالطات والأوهام والأفكار الخاطئة عن "يونسكو"، وفي الحقيقة عن أوضاعنا في العالم، كيلا أقول عن صورتنا كما تعكسها مرايا ذواتنا لنا، أي هويّتنا قبل كل شيء. وبهذا الخصوص، أود الإشارة إلى أمرين يستوقفان النظر بصدد انتخابات يونسكو . يتصل أولهما، كما سنرى، بكيفية تعاملنا مع هذه الإنتخابات، من ناحية، ومع نتائجها، من ناحية أخرى؛ وثانيهما كيفية تعاملنا مع "يونسكو" نفسها، وهو ما يهمني بالمقدار الأول.
ونحن نعرف أن اللّغة كشّافة. منها تطل على مستخدمها، وفيها تتلمّس أهواءه وتطلعاته؛ وعلى صفحة مرآتها يمكن لك سبْرَ حاملها الاجتماعي، وتتلمّس موقفه من العالم. وسنلاحظ في سياق هذا النص القصير كيف أن اللغة المستخدمة بخصوص انتخابات "يونسكو" تشفّ، أولاً، عن وعي مستخدمها، وأنها في الغالب تخترع "يونسكو" بعيدة إلى هذا الحد أو ذاك عن "يونسكو" نفسها، وأن هذه اليونسكو المبتكرة تلبي متطلبات الداخل العربي، وتتوجه إليه بلغته، وتدغدغ همومه وتطلعاته، وبما يرادُ في بعض الحالات إيصاله له. فليس مصادفة، مثلاً، أن معلقين كثيرين استخدموا مصطلح رئاسة "يونسكو" (أو انتخاب رئيس اليونسكو) بدلاً من المدير العام. والفرق بين المصطلحين شاسع وكشّاف في آن. فالرئيس، بحسب هذا الفهم، هو رأس يدير الجسم الذي هو المنظمة، تماماً كما هو الأمر في العالم الذي أتى منه المعلقون والمرشّحون على السواء. فعلى غرار نظمنا السياسية والإجتماعية، الرئيس هو الأول وهو الأخير، بيده كل شيء، وليس لقدراته حد. في حين أن المدير العام في "يونسكو" هو وظيفة تنفيذية، ينفّذ أو يطبّق استراتيجية "يونسكو" وقرارات سلطاتها العليا: المؤتمر العام والمجلس التنفيذي. إنه مدير الإدارة (الأمانة العامة) التي تسهر على وضع الإستراتيجية التي أقرّها المؤتمر العام موضع التطبيق.

ليس الفرق إذن بين مصطلحي (رئيس يونسكو) المستخدم بكثافة بيننا و(مدير عام يونسكو) من نوافل الأمور. في مفهوم الرئاسة سلطةٌ لا يتوفّرعليها مفهوم المدير. وفي استخدامه، فضلاً عن ذلك، تبريرٌ مضمرٌ لكل ذلك الاستنفار المتوتِّر، والتحشّد الإعلامي، وللطاقات التي بذلت في "سبيله"؛ ولكل اللغط الذي لم يهدأ بعد، بخصوص مزاعم شراء أصوات مندوبي دولٍ بعينها، في حين أن هذه المزاعم، كما لاحظ معلّق حصيف، تسيء لمن يُطلِقُ التهمَ أكثر من إساءتها لمن تُكالُ بحقهم التهم.
ولئن كان استخدام بعض معلقينا مصطلح (رئيس) يشفّ عن الإدراك الشائع لدينا لمفهوم السلطة، وهو إدراكٌ أقرب، بالضرورة، إلى الإستبداد منه إلى الديمقراطية؛ فإن اللجوء إلى مصطلحاتٍ حربية لوصف و/أو لتحليل مجريات العملية الإنتخابية تشفّ، على الأرجح، عن أمرين: أن الاستحواذ على "رئاسة" يونسكو، والتمكّن من سلطاتها الرئاسية، تبرّر "حملات" المرشحين والتحشدات التي واكبتها؛ وثانيهما أنها تعكس بالضرورة كيفية رؤيتنا للوقائع أكثر مما هي توصيفٌ لها. فليس من قبيل المصادفة أن جلّ الذين علّقوا على انتخابات "يونسكو" لم يترددوا عن عنونة نصوصهم وتعليقاتهم بعبارات مثل "موقعة اليونسكو"، "معركة اليونسكو"، أو "معمعة اليونسكو". بل إن أحدهم كتب "تأملات في معركة اليونسكو"، في حين دبّج آخر تعليقاً مطولاً عن "معركة الدبلوماسية والعقيدة" في يونسكو!
كتب عديدون تعليقاتٍ لا تشفّ عن عدم إلمامهم، كيلا أقول عن جهلهم، بأمور "يونسكو" فحسب، بل وكذلك عن كسلٍ مُريعٍ في التدقيق بالمعلومات التي يُبنى "التحليل" عليها، فليس صعباً مثلاً التأكد إن كان الأميركي بيتر سميث هو مندوب الولايات المتحدة الأميركية لدى يونسكو أم "مساعد المديرالعام لقطاع التربية" فحسب، وأنه طرُد من "يونسكو" بعد قليل من تعيينه، لسوء إدارته وسوء سلوكه وسوء أمانته في آن، وأن أحداً لم يتمسّك به بما في ذلك مندوبية الولايات المتحدة. والواقع أنه يتعذّر الجمع بين منصب إداري في "يونسكو" ومنصب مندوب دائم لبلاده لديها معاً، وأن إدارة "يونسكو" هي التي عيّنت بيتر سميث، وليست الولايات المتحدة الأميركية، وأن هذا التعيين جاء "تكريماً" للأخيرة، إثر عودتها إلى "يونسكو" بعد غياب استمر حوالى عقدين. وأن تعيينه جاء بتوافق مصادفتين. أولاهما شغور منصب مساعد المدير العام للتربية في الوقت الذي أعلنت إدارة جورج دبليو بوش عودتها إلى "يونسكو"، وثانيهما أن بيتر سميث، وهو بالمناسبة دعيّ، كان يبدو في سيرته الذاتية كما لو كان الشخص المناسب لمثل هذا المنصب المرموق: متخصص في علوم التربية، ورئيس لجامعة.. إلخ. يمكن أن نفهم لماذا تسرّع المديرُ العام، الياباني كويشيرو ماتسوورا، في ترشيح الأميركي، بيتر سميث، وفي الطلب من المجلس التنفيذي الموافقة على التعيين، ولماذا تغاضى الجميع في الإدارة وفي المجلس التنفيذي عن ضرورة التدقيق في مؤهلات الرجل، وفي صلاحيته للمنصب.


***
أود الإشارة إلى مفارقة ذات بعد إجرائي بيِّن، من حيث تأثيرها على تعاملنا مع "يونسكو"، بما هي منظمة دولية متخصصة بشؤون التربية والثقافة والتراث. يتصل بيان هذه المفارقة برواج نظرية المؤامرة بيننا. ومن غير الدخول في حيثيات هذه النظرية، (وهي بالمناسبة تستند إلى أسس قد تكون موضوعية، منها أن أعداءنا يكيدون لنا ويتآمرون علينا بالضرورة)، أود الإشارة فقط إلى أن فرضياتها المركزية تُفضي إلى اليأس، وتؤدي إلى الإستسلام، بما أن المواجهة، بحسب فرضيات المؤامرة، لا جدوى منها على الإطلاق. فالعدو المتآمر، بحسب هذه النظرية، كلي القدرة: يعرف عنا كل شيء، ويوجه كل شيء، ويستثمر كل شيء. فعلى سبيل المثال، نشر أحدهم، قبل أيام، مقالاً في صحيفة عربية كبرى، يُرجعُ فيه فشل السيدة مشيرة خطاب إلى "الصفقة السياسية لمن يريد أن يفهم"، وأسُّها أن "أمريكا وإسرائيل معًا، لا يستريحان لصعود مصري، أو دور قيادي لمصر، أو شغل أي منصب دولي مثل اليونسكو". وينسى الكاتب أن نجاح السيدة أودريه أزولاي لم يكن مقرراً مُسبقاً، ولم يكن مضموناً أبداً، بمقدار ما يعود إلى عوامل عديدة، أشرت إليها في نص سابق في "العربي الجديد".
بيد أن الفرضيات المركزية لنظرية المؤامرة هنا، وأؤكد هنا، لا تصمد أمام أي تحليل. فلو كانت صحيحة، وكان الأعداء قادرين على فعل ما يريدون، أي توجيه التاريخ بحسب ما يشتهون، لما اضطرت الولايات المتحدة إلى الإنسحاب، ولما ندّد سياسيوها بـ "يونسكو" على أنها معادية لإسرائيل (أي مطالبة يونسكو إسرائيل بالكفّ عن انتهاكاتها لحقوق الإنسان وعدوانيتها ومخالفتها ميثاق يونسكو وهيئة الأمم المتحدة ككل). ولما لجأ الإسرائيليون إلى الإفتراء على "يونسكو"، ولما كانوا لوّحوا، من غير فائدة تذكر، بسلاح معاداة اليهودية في كلّ المرات الكثيرة التي أحبطت مساعيهم.
ليس الإنسحاب من "يونسكو" برهاناً على عجز الولايات المتحدة الأميركية عن العمل وفق ما تريد في "يونسكو"، فحسب، بل ويشكل قبل ذلك نقداً صارخاً لنظرية المؤامرة في "يونسكو" على الأقل، من جهة، ودعوة فصيحة لمن يريد إلى العمل والإنجاز، من جهة ثانية.

****
والواقع أن مشكلة الولايات المتحدة في "يونسكو" تكمن في حقيقة أن ميثاق هذه المنظمة الدولية المرموقة يُحبطُ استراتيجيتها (أميركا) في السيطرة والاستفراد، ويكبحها. المجلس التنفيذي ليونسكو ليس مجلس الأمن، لا من حيث البنية أو من حيث الوظائف. لا فيتو في "يونسكو". كل الدول فيها سواسية من حيث الحقوق والواجبات. صوتُ الولايات المتحدة الأميركية يساوي صوتَ أية جزيرةٍ نائية تكاد لا تُرى في المحيط، مثل سانتا لوسيا، أو أية دولة صغيرة تُناصبها العداء، مثل كوبا. ولأن السياسة الأميركية لا تعرف السياسة بالمعنى المألوف للسياسة، من حيث التفاوض والمناورة والبحث عن أفضل الحلول الممكنة، فهي تجد نفسها في مأزق دائم داخل "يونسكو". فلأنها لا تستطيع فرض استراتيجيتها على الآخرين، أو لجمهم عن مناكفتها، تلجأ إلى استراتيجية الابتزاز بالانسحاب وبالكفّ عن التمويل. ولكن استخدام هذا السلاح سرعان ما يعطلُ مفعولُه الغرضَ منه، ويتحول إلى سلاحٍ مضاد يسهم في عزلة الولايات المتحدة، ويعمق من هذه العزلة. فعدم تسديد الاستحقاقات المالية التي ينبغي سدادها يحرم الولايات المتحدة من التصويت والترشح، وبالنتيجة من التأثير؛ بل ويعزّز من نفوذ خصومها ومن قدراتهم على مناكفتها، ويُهمشها أكثر.
***
في كتابه "أولاد النوبة"، يروي وزير الثقافة المصري ثروت عُكاشة، قصة إنقاذ معبد أبي سمبل في ستينات القرن العشرين، ودور "يونسكو" في عمليات هذا الإنقاذ. كانت آثار المعبد مهددة بالغرق والإختفاء النهائي؛ ولم تكُن إمكانات الدولة المصرية المحدودة وقتئذ قادرة على تلبية الإحتياجات المادية والتقنية الضرورية لإنقاذ هذا التراث الإنساني العظيم. كان توثيق آثار "أبي زعبل" هو أقصى ما يمكن لأثريي مصر فعله بهذا الخصوص. هكذا لجأت مصر إلى "يونسكو" ودعتها لمساعدتها في حماية آثار النوبة. بقية القصة معروفة. استجابت "يونسكو"، وأطلقت نداء باريس في مارس/ آذار 1960، وانطلقت معه حملة عالمية (بالمعنى الحرفي لكلمة عالمية) دعمت مصر مادياً وتقنياً في إنقاذ معبد أبي سمبل من الغرق، وفي صون واحد من أهم معالم الحضارة والتراث الإنساني، ومن أبرزها قاطبة.
غرض ما سبق هو القول إن "يونسكو"، مثل غيرها من المنظمات الدولية، ليست ملعباً لصالح الأشرار، وينبغي ألا تكون كذلك. إنها ميدان مفتوح للعمل والإنجاز، وللكفاح لمن يطيب له هذا التعبير. وليست الإنجازات الكثيرة التي تحققت بخصوص التراث الفلسطيني والعربي، بما في ذلك القدس المحتلة، غير برهان على ما نقول. فلم تسقط القرارات من السماء، بل جاءت نتيجة جهد دؤوب، قام به الفلسطينيون والعرب وأصدقاؤهم في "يونسكو".

ثم إن ميثاق "يونسكو" هو الذي يحدّد، كما نعلم، علاقة هذه المنظمة بالقضايا التي تتناولها. ولا يكمن سر النجاح الفلسطيني والعربي في استصدار قراراتٍ تزعج إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية بغير تذكير الهيئات القيادية في "يونسكو" (المؤتمر العام والمجلس التنفيذي) بميثاق "يونسكو" الذي يجافي الاحتلال، ويشجب انتهاك الحقوق الإنسانية والعدوان على التراث الثقافي والمؤسسات الثقافية، وغير ذلك من الجرائم التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، بدعم جلي من الولايات المتحدة الأميركية.
أؤكّد: هذه المنظمة الدولية المرموقة، حيث تلقى قضايانا نجاحاً يثيرغبطتنا، ويشغّل ماكينة إعلامنا خصوصاً، هي ميدانٌ مفتوح على الصعيد الدولي لتحقيق إنجازاتٍ، نحن في أمس الحاجة لها بلا مراء، وعلينا أن نوليها عنايةً أتمنى لو كانت أكبر. إلى ذلك، "يونسكو" هي كذلك ميدان مفتوح للمناكفة، لمن يحب المناكفة. فيها تستطيع، إن أحسنت "اللعب"، أن تُغالب خصمك، وأن تنازله بنوع من التكافؤ، قد لا يتوفر في ميادين أخرى، وأن تُحقق إنجازات كبيرة على الصعد التربوية والثقافية وصون التراث، وغيرها من مجالات اختصاص "يونسكو". غير أنك في هذه المنظمة تستطيع، فوق ذلك كله، أن تحقق منجزاتٍ لا تقدر بثمن على الصعيد الرمزي، أي السياسي بالمعنى الدقيق للكلمة.
كل ما يُنجزُ في "يونسكو" هو بهذا المعنى رمزي، فقرارات المجلس التنفيذي ولجنة التراث وغيرهما بخصوص القدس والخليل وبيت لحم والمؤسسات التعليمية رمزية. وكثيراً ما يُتساءلُ، بخبثٍ أو بسذاجة، عن جدوى قرارات "يونسكو" التي تضرب إسرائيل بها عرض الحائط. لكن العناية الواسعة، الرسمية خصوصاً والإعلامية عموماً، التي تحظى انتخابات "يونسكو" بها منذ عشرات السنين، تشي بغير ذلك، وتبدّد كل ما يُستشفُ منه الاستخفاف بيونسكو، وما يُقالُ بخصوص ضعف تأثيرها، وغير ذلك من الكلام الذي لا يستند إلى أي تحليل جاد. وما انسحاب الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل، كما قلنا، غير دليل صارخ على ذلك.

**
يبقى القول إن المديرة العامة ليونسكو ليست رئيساً مطلق الصلاحية يفعل ما يشاء. هي ملزمة بميثاق "يونسكو"، وبالإستراتيجية التي يخطها المؤتمر العام، وبقرارات المجلس التنفيذي، وبتنفيذ ما يُطلبُ منها. وهي لا تستطيع، حتى لو أرادت، غير الالتزام بما تقره هيئات "يونسكو" القيادية، وهي في الواقع عرضة للمحاسبة في كل لحظة، وليس لها أية مصلحة فعلية بعدم تنفيذ ما يُطلَبُ منها تنفيذه.
A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.