الملتحفون بإسرائيل عراة

الملتحفون بإسرائيل عراة

31 أكتوبر 2017
+ الخط -
"لم يكن الرجل الذي عرفناه، كان متعكّر المزاج، عصبيا، شارد الذهن، بدا غير واثق من المستقبل، استبدّت به المخاوف من القادم، حتى استسلم لقدره المحتوم، يكابد حتى يتمكّن من تصنّع ابتسامة... أخذ يحدّثني عن إحباطه عن لامبالاة الأميركيين تجاه المظاهرات التي اشتعلت في طهران، ومدن إيرانية أخرى، وعبّر عن خيبة أمله من عجز إسرائيل عن مساعدته". هذا ما كتبه أوري لوبراني، آخر سفير لإسرائيل في إيران، في برقية سرية بعثها إلى وزارة الخارجية الإسرائيلية، بعد اجتماع عقده مع شاه إيران، في قصره، في إحدى ليالي شتاء 1978، وأفرج عنها الأرشيف "الوطني" الإسرائيلي قبل شهرين. ويتضح من البرقية أن شاه إيران أدرك، متأخرا، أن استثماره الهائل في تطوير العلاقات مع إسرائيل، وتسخيره المكانة الجيواستراتيجية والاقتصادية الإيرانية، لخدمة المصالح الصهيونية، لم يكن في محله.
لم يكن شاه إيران الوحيد الذي خبر خيبات أمل في الرهان على إسرائيل، حيث اكتوى بنارها آخرون. فقبله خاب أمل أكراد العراق في أن يسهّل تحالفهم مع إسرائيل مهمة تدشين دويلة كردية في شمال العراق. لقد قدّم الأكراد للحركة الصهيونية خدماتٍ كبيرة، في مقدمتها المساعدة في تهجير عشرات الآلاف من اليهود العراقيين إلى إسرائيل، وحصلوا مقابل ذلك على تدريب وعتاد إسرائيلي، لتعزيز قدرتهم على محاربة الحكومة المركزية في بغداد. لكن، بعد أن وقّع العراق وإيران على اتفاقية الجزائر في 1975، لم يعد في وسع إسرائيل استخدام الأراضي الإيرانية للتواصل مع الأكراد، ما أدى إلى تهاوي مكانتهم في المواجهة مع الحكومة العراقية.
ولم يفض وقوف إسرائيل إلى جانب الموارنة، خلال الحرب الأهلية اللبنانية، إلى تحسين مكانتهم في الصراع الداخلي، بل على العكس، فقد مثّل دخول إسرائيل إلى جانبهم بعد اجتياح 1982 نقطة تحول فارقة، أسهمت في إضعافهم، وتوفير بيئة ساعدت على ظهور قوى لبنانية، بنت شرعيتها على أساس مقاومة إسرائيل.

لكن الارتهان إلى مغامرات طائشة يدفع بعضهم إلى تناسي الخبرات البائسة للعلاقة مع إسرائيل، ويعيدون الكَرة من جديد. فها هم الأكراد يرتكبون الخطأ نفسه برهانهم مجدّدا على دعم إسرائيل، في ضمان شرعية دولية لنتائج الاستفتاء التي أيدت الانفصال عن العراق. وتشهد وسائل الإعلام الإسرائيلية أن رئيس الوزراء الصهيوني، بنيامين نتنياهو، أجرى اتصالات مكثفة مع قادة دولٍ كثيرة، وأرسل الوفود لحشد دعم دولي لنتائج الاستفتاء الكردي؛ لكن محصلة هذه التحرّكات كانت صفرا كبيرا. فقد حفز الاصطفاف الإسرائيلي العلني إلى جانب الأكراد القوى الإقليمية، خصوصا إيران، للاستنفار لإحباط التحرّك الكردي، من خلال تشجيع حكومة بغداد على احتلال كركوك، وهو ما مثل عمليا تحييد دور الاستفتاء في إملاء حقائق سياسية على الأرض، وتصفية الحلم الكردي في الاستقلال.
والمؤسف أنه يتضح من خلال ما تتناقله وسائل الإعلام الغربية والإسرائيلية أن نظام الحكم في السعودية يقوم مجدّدا بتجريب المجرّب، من خلال التقارب مع إسرائيل. فإلى جانب الكشف عن مظاهر التعاون الأمني والتنسيق السياسي التي تتواصل سرا، فإن السعودية تسمح بصدور مؤشرات علنية على هذا التقارب، من خلال السماح لمسؤولين سابقين وأفراد من العائلة المالكة بالتورّط في أنشطة تطبيعية، ضمنها القيام بزيارات علنية لإسرائيل، كما فعلت شخصيات سعودية برئاسة اللواء أنور عشقي، بالإضافة إلى لقاءات علنية يجريها مدير المخابرات السعودي الأسبق، الأمير تركي الفيصل، مع قادة الأجهزة الأمنية الصهاينة السابقين. ومن نافلة القول إن السعودية التي لا تتردد في اعتقال نخبها بتهمة الصمت حيال الأزمة مع قطر، أو لمجرد الدعاء ليحل الوئام مع الدوحة، تمنح مؤشراتٍ على طابع العلاقة السرية مع تل أبيب، من خلال السماح بمظاهر التطبيع العلني.
وعندما يثار التساؤل بشأن مسوّغاتٍ تدفع السعودية إلى التقارب مع إسرائيل، فإنه عادة ما تتم الإشارة إلى أن مواجهة إيران ومشروعها النووي وتوسعها في المنطقة يستدعي التنسيق مع القوى التي تتقاطع مصالحها مع الرياض في ذلك، وفي مقدمتها إسرائيل. ولكن، عندما يتم اختبار هذا المسوغ استنادا إلى الحقائق، يتبين بسهولة أن إسرائيل وحدها التي استفادت من التنسيق مع السعودية، بشأن مشروع إيران النووي وتوسعها الإقليمي. فالتحرك السعودي الإسرائيلي ضد الاتفاق النووي داخل الولايات المتحدة أفضى إلى منح إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، تل أبيب، 38 مليار دولار، من أجل تقليص المخاوف الصهيونية من تبعات الاتفاق، في حين ظلت الرياض حبيسة مخاوفها. وعندما تولى ترامب الحكم، سارعت السعودية إلى محاولة التأثير على موقفه من إيران، بضخ عشرات مليارات الدولارات في الخزانة الأميركية على شكل عقود شراء أسلحة، وعبر مغازلة أصدقاء إسرائيل في الإدارة
والكونغرس الجاليات اليهودية، عبر منح مزيد من المؤشرات على التقارب مع تل أبيب. لكن، على الرغم من الاستثمارات الضخمة، لا تبدو السعودية واثقة من توجهات ترامب الحقيقية إزاء إيران، على الرغم من خطابه المتشدّد تجاه طهران؛ حيث مثل التوجه السعودي لطلب ود روسيا مؤشرا على انعدام الثقة في الركون إلى ترامب.
المفارقة أن مواصلة السعودية رهانها على العلاقة مع إسرائيل تقابلها شكوك إسرائيلية إزاء عوائد هذه العلاقة في المستقبل. فقد توقعت دراسة صادرة عن "مركز أبحاث الأمن القومي" في 26/ 9/ 2017 أن تزهد القيادة الإسرائيلية في مواصلة الاستثمار في تطوير العلاقة مع الرياض، بسبب "المؤشرات على حدوث تراجع متواصل على مكانة السعودية الإقليمية، بفعل السياسات التي يتبناها ولي العهد محمد بن سلمان، ما يقلص من العوائد الاستراتيجية للعلاقة معها". .. قصارى القول، عريان من يلتحف بإسرائيل.