موقف تبسيطي.. موقف مرتبك

موقف تبسيطي.. موقف مرتبك

04 أكتوبر 2017
+ الخط -
كشف استفتاء الكرد واقع السياسة الرسمية للدول العربية، سياسة لا تنتمي إلى عالم السياسة، بما هو عالم مصالح قريبة وبعيدة، وإنما إلى خليط من العواطف والمشاعر والعادات القبلية، البدوية والريفية، مع ميل إلى الارتجال والمزاجية، من دون أن ننسى تماهيها مع توجهات دول المتروبول.
لم تكن مواقف الدول العربية التي أعلنت، قبل الاستفتاء وبعده، وليدة تفكير منطقي وعملي، ولا نتيجة دراسة وتمحيص للاحتمالات والنتائج ومترتباتها، بل وليدة تصورات نمطية، مستلهمة من حكم وأمثال شعبية مثل "عدو عدوك صديقك" و "الباب إلي يجيك منو ريح سدو واستريح"، من جهة، ومحكومة بقصر نظر سياسي راسخ، من جهة ثانية. فالمواقف التي أعلنت من مبدأ الاستفتاء ارتبطت بقراءة قصيرة النظر، أساسها انعكاس الخطوة على الأصدقاء والخصوم، فمن أيّد أيّد نكاية بخصم له، أو مجاملة لصديق له، ومن رفض رفض نكايةً بخصم له، أو مجاملة لصديق له، مع ملاحظة اضطرابها (المواقف) وعدم وضوحها، بسبب التداخل بين الأصدقاء والخصوم (تركيا، إيران، النظامان العراقي والسوري، وإسرائيل). وقد كان لافتا على هذا الصعيد موقف النظام السوري الذي رفض فكرة الاستفتاء، واعتبر في الوقت نفسه "إقامة إدارة ذاتية لكرد سورية أمرا قابلا للتفاوض والحوار، في حال إنشائها في إطار الدولة السورية"، وفق تصريح وزير خارجيته، رفضه إرضاء لإيران والنظام العراقي، ووافق على إدارة ذاتية للكرد في سورية نكاية بتركيا وضغطا عليها.
كان الأنسب أن تسعى مواقف الدول العربية إلى حوار بين إقليم كردستان والنظام العراقي، من أجل اتفاقٍ يرضي الطرفين، ويمنحها موقعا في المعادلة الجديدة. غير أنه لم يكن وراء هذه
المواقف من مبدأ الاستفتاء حسابات وتقديرات مصلحية خاصة، أما مواقفها بعد حصول الاستفتاء، واتضاح موقف الشعب الكردي في الإقليم، الراغب في الاستقلال في دولةٍ خاصةٍ به، فاتسم بصمت مدوٍّ، حيث لم تصدر عن الدول العربية، وخصوصا دول الجوار، مواقف مؤيدة أو رافضة للنتيجة، مع إعطاء ضوء أخضر لوسائل إعلام قريبة منها، للتعبير عن المواقف، بحيث تتناغم مع مواقفها من مبدأ الاستفتاء.
لم تدرس الدول العربية الموقف من كل جوانبه، ولم تجر حساباتها الخاصة على المديين، القريب والبعيد، وتقديرها الموقف، واكتشاف الفرص والمخاطر التي ينطوي عليها استقلال الكرد، في ضوء حقائق الجغرافيا السياسية والإستراتيجية في دولها ودول الجوارين، القريب والبعيد، حيث استقر رأي الدارسين والمحللين الاستراتيجيين أن القوى الفاعلة في الإقليم (إسرائيل وتركيا وإيران) تشكل تحديا لها، وأن من مصلحتها دخول هذه الدول في حالة ضعف، وأن قيام دولة كردية يمكن أن يحقق ذلك، إن من خلال إيجاد توازناتٍ جغرافيةٍ سياسية جديدة، وإتاحة فرصة لقيام تحالفات جديدة، تقربها من حدود خصومها، وتمنحها مجالا للتأثير على مواقفها وسياساتها، أو لجهة تحريك الكرد في هذه الدول، تركيا وإيران خصوصا، واستنزافها والضغط عليها للقبول بمحدّدات سياسية لدورها الإقليمي، ومصالحها فيه، وصياغة نظام أمن إقليمي جماعي، يستجيب لمخاوفها القومية، والاتفاق على حلول متوازنة للملفات العالقة معها.
كانت تطورات ما بعد الاستفتاء وتبعاته فرصة لانخراط مباشر في المعادلة، عبر التحرك لاحتواء ردود الفعل الحادة، وتخفيف الضغوط على حكومة الإقليم، والتواصل معها وتقديم مساعداتٍ إنسانية، للحد من آثار الحصار، واستثمار ذلك في الضغط على النظام العراقي، من أجل استعادة سيادته، بالحد من النفوذ الإيراني فيه، وتطوير نظامه، بحيث يكون أكثر عدلا ومساواة بين المواطنين، وتحقيق اندماج وطني مدخلا لإقامة دولة مواطنة، والدخول في الاستقرار والازدهار.
كانت مصالحها هذه الدول القومية (وليس المصالح العربية كما هو شائع في الأدبيات السياسية العربية، والتي أضعها في خانة الوهم أو تمويه الواقع، حيث لعب اعتماد المحللين والمنظرين العرب للرواية الرسمية العربية عن المصلحة القومية، باعتبارها حقيقة، وهي غير ذلك بالمطلق، دورا سلبيا مدمرا على التصورات والتقديرات والممارسات، إذ الواقع هي مصالح دول متعددة ومتباينة ومتصارعة، ما يستدعي إعادة النظر وإجراء حسابات منطقية وتقدير
موقف على أساسها) كانت تستدعي التدقيق في الموقفين، الإيراني والتركي، من استفتاء إقليم كردستان واستقلاله، وقراءة خلفياتهما البعيدة، وتلمس سبب حدتهما وتوجسهما ومدى ارتباط ذلك بحسابات جيواستراتيجية، في ضوء نظرة كل منهما إلى وزنها ودورها الإقليمي والدولي الذي ستربكه وتحد منه دولة كردستان، وإن هدف توافقهما على مواجهة تحرك الكرد نحو الاستقلال الحفاظ عليهما، واللذان لن يكونا إلا على حساب مصالحها ووزنها ودورها هي. وهذا ينطوي على محدّد للموقف المنطقي والعملي الذي يخدم مصالحها وأمنها القومي، والذي يجب أن تأخذه: تأييد الاستفتاء واستقلال إقليم كردستان من دون تردد، إن لم يكن لاعتبارات أخلاقية: إحقاقا للحق، فتحقيقا لهدف جيواسترتيجي: إضعاف الخصوم والضغط عليهم، وتطويقهم جيوسياسيا، بالتحالف مع الكيان الجديد. فحساسية إيران وتركيا إزاء قيام دولة كردية جيواستراتيجية بامتياز، والرد عليها يجب أن يكون كذلك.
يبدو أن الدول العربية مازالت أسيرة نظرة سكونية، توقفت عند المحدّدات القانونية والسياسية التي أقرّها المجتمع الدولي في عشرينيات القرن الماضي، حيث حدّدت عصبة الأمم الدولة أساسا للعلاقات الدولية، وغضت النظر عن الشعوب ومصالحها وتحركاتها، واعتبرت (الدول العربية) الحدود التي قامت نهائية، وغير قابلة للتعديل أو حتى التغيير. مع أن ذلك حصل في استقلال كل من إريتريا وجنوب السودان وتيمور الشرقية، ولم تنظر في احتمالات حدوث ذلك فيها، أو في جوارها، وتستعد لذلك، وتتصرف بما يخدم مصالحها وأمنها القومي.
هنا، يمكن أن نقارن بين مواقفها والموقف الروسي من الاستفتاء، حيث لم تكتف روسيا، على الرغم من علاقاتها القوية مع إيران وتركيا والنظامين العراقي والسوري، بعدم رفض الاستفتاء فقط، بل وسعت إلى العمل على محاصرة ردود الفعل، والدعوة إلى الحوار لحل القضية، والاستعداد للتوسط بين أطراف الصراع. وفي الوقت نفسه، عزّزت علاقاتها السياسية والاقتصادية مع إقليم كردستان، فترى موسكو في أي أزمة تنشب في المنطقة فرصة لزيادة نفوذها على حدودها الجنوبية، ومنافسة واشنطن. صحيح أنها لا ترغب في نشوب حرب كبيرة، تعطل مشروعاتها في المنطقة، لكنها ترغب في استمرار بؤر توتر، يمكن احتواؤها، والاستفادة منها في التعامل مع القوى الإقليمية، لتحقيق مكاسب جيوسياسية.

دلالات