عودة شبح الفرانكوية

عودة شبح الفرانكوية

04 أكتوبر 2017
+ الخط -
أطل يوم الأحد، الأول من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، على الإسبان في كتالونيا، ليس فقط كابوسا يمكن أن تعيشه أي ديمقراطية معرّضة للعطب، كيفما كان تحصينها، وإنما هو الخوف من عودة "شبح الفرانكوية" الذي ما زال يخيف إسبانا عديدين.
فمن كان يعتقد أن مثل هذه الأحداث، التي ذكّرت الإسبان بأسوأ أيام الفرانكوية، يمكن أن يَشهدها اليوم بلد أوروبي؟ فتجاوزات الحرس الوطني الإسباني الذي تصرف كجيش تجاوزت كثيرا إطار القانون والنظام، خصوصا أن سكان كتالونيا لم يظهروا أي عدوان تجاهه، وظلوا متمسكين بسلمية مطالبهم.
وحتى قبل المواجهات العنيفة والدامية يوم الاستفتاء، كانت حكومة مدريد قد تجاوزت كل "الخطوط الحمراء" التي لا يمكن لأي نظام ديمقراطي أن يقترب منها، عندما هاجمت شرطتها الإدارات والوزارات، واعتقلت كبار المسؤولين والوزراء، واقتحمت صالات تحرير وسائل الإعلام، ومنعت توزيع مناشير الدعاية للاستفتاء ونشرها، ولجأت إلى العنف لتكسير مراكز التصويت، وكان مشهدا مسيئا للديمقراطية، ذلك الذي تناقلته وسائل الإعلام الدولية لعناصر الشرطة المدججين بالسلاح، وهم يكسرون الأبواب، ويسحبون صناديق الاقتراع بكل ما تحمله هذه الأخيرة من رمزية للعملية الديمقراطية.
ما حصل في كتالونيا من عنف في بلد يعد من بين دول "النادي الديمقراطي الغربي" لا يمكن تفسيره أو فهمه بدون العودة إلى التاريخ القريب لإسبانيا، وخصوصا إلى ما تسمى في إسبانيا 
المرحلة الفرانكوية، نسبة إلى الدكتاتور فرانشيسكو فرانكو (1892 - 1975) الذي حكم إسبانيا بالحديد والدم، بعد أن قاد انقلابا عسكريا سنة 1936 أدخل إسبانيا حربا أهلية دامية، وانتهت بالقضاء على الشرعية الديمقراطية وصناديق الاقتراع التي قادت آنذاك اليسار إلى حكم إسبانيا، فقد عنونت صحف عالمية أحداث كتالونيا بـ "عودة الفرنكوية"، و"الفرانكوية لم تمت"، على الرغم من أنها انتهت رسميا عام 1978، عندما دشنت إسبانيا ما أصبح يعتبر "انتقالا ديمقراطيا نموذجيا"، أدخلها من الباب الواسع إلى نادي الديمقراطيات الغربية الحديثة.
يجد هذا الحديث عن "عودة الفرانكوية" ما يبرّره عندما يتم ربط اللجوء إلى الاستعمال المفرط للعنف إلى الحزب اليميني الحاكم (الحزب الشعبي) الذي يقوده رئيس الحكومة الحالي اليميني، ماريانو راخوي، فهذا الحزب هو سليل حزب يميني فاشستي رأى النور عام 1976 تحت اسم "التحالف الشعبي"، أسّسه مانويل فراغ الذي تولى وزاراتٍ في حكومات مختلفة في عهد الجنرال فرانكو، وضم في عضويته كثيرين من وجوه النظام الفرانكوي آنذاك.
فهذا الحزب، الذي يحمّله كثيرون اليوم مسؤولية أعمال العنف في كتالونيا، وعلى الرغم من كل التحولات التي عرفها في تاريخه، وكان يعتبر، حتى وقت قريب، من بين أكبر حزبين في إسبانيا، إلى جانب حزب العمال الاشتراكي، مازال يحمل في جيناته العقيدة الفرانكوية التي تقوم على تقديس وحدة إسبانيا، والثقة العمياء في مؤسسة الجيش، وتغليب "منطق الدولة" على كل أنواع الوسائط السياسية والمدنية الحديثة، والميل إلى الاستبداد وعدم الخجل من الإساءة في استعمال السلطة، بالإضافة إلى استمرار نوعٍ من التواطؤ بين القوى السياسية والمالية والدينية المسيحية، وهو التحالف نفسه الذي أقام عليه فرانكو ديكتاتورية ستا وثلاثين سنة متواصلة.
وحتى بعد موت مؤسس النظام الفرانكوي عام 1975، ودخول إسبانيا نادي الديمقراطيات الغربية الحديثة، ظلت الفرانكوية حية كإيديولوجيا وعقيدة لم تدفن قط في إسبانيا، فقد كان من بين أحد شروط التحول الديمقراطي في إسبانيا عدم إدانة الطبيعة الفاشية والدكتاتورية للنظام الفرنكوي، والسماح لرموزه بالإفلات من الحساب والعقاب. ونجح اليمين الإسباني، الوريث الشرعي لهذا النظام الدكتاتوري، في تلميعه والتمويه على طبيعته الإجرامية. لذلك لم يعد الإسبان الشبان يجدون أي حديثٍ في مناهجهم التعليمية أو في إعلامهم عن "الفاشية" أو "الدكتاتورية" الفرنكوية، وإنما أصبح الحديث فقط عن "النظام الفرانكوي" أو "المرحلة الفرانكوية" فقط وبدون أية أوصاف أخرى، للتغطية على طبيعة هذا النظام الفاشي.
وفي المقابل، لم تمت عقيدة النظام الفرانكوي، بل أصبح لها أنصار يجاهرون بها، نجحوا في البداية في السيطرة على آليات التحول الديمقراطي. وبعد ذلك عملوا على التغلغل داخل القوى السياسية والمالية والإعلامية، بهدف الـتأثير فيها والسيطرة عليها.
ولاستيعاب خطورة ما حدث في إسبانيا على الديمقراطية، يجب مقارنة تصرف حكومة لندن في
أثناء استفتاء "بريكست" مع تصرف حكومة مدريد مع استفتاء كتالونيا. لقد أبانت الحكومة البريطانية عن تصرف ديمقراطي، عندما احترمت رأي دعاة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، بينما فضلت حكومة مدريد وضع الدفاع عن "وحدة إسبانيا الأبدية" قبل كل المبادئ والقيم التي يقوم عليها أي نظام ديمقراطي.
وقد أظهرت لنا أحداث كتالونيا التناقض في تفسير أهم القيم التي تقوم عليها الديمقراطية، أي الحق في التعبير، وحق تقرير المصير، وكلاهما من المواثيق الكونية والمعاهدات الدولية الملزمة للدول التي وقعت وصادقت عليها. كما أنها وضعت حكومات أوروبية كثيرة، والاتحاد الأوروبي نفسه، في موقف حرج، عندما وجدوا أنفسهم غير قادرين، ليس فقط على حماية حقوق واحد من شعوب أوروبا وضمانها، عندما تتعارض هذه الحقوق مع المصالح التي تدافع عنها حكومات أعضائه، وإنما عند سكوتهم عن إدانة القمع الذي تعاملت به حكومة مدريد لمنع جزء من سكان إسبانيا من التعبير بحرية في استفتاء سلمي عن رأيهم.
لم تسئ أحداث كتالونيا فقط إلى صورة إسبانيا التي كانت نموذجا ناجحا لانتقال ديمقراطي سلس وناجح، وإنما إلى صورة أوروبا الغربية التي تقدم نفسها حامية للقيم الديمقراطية الغربية في العالم، وأخيرا إلى الديمقراطية نفسها التي أبانت لنا هذه الأحداث أنه لا وجود لحقوق أبدية مكتسبة، وإنما لا بد من وجود مقاومة دائمة لحماية الحقوق المكتسبة وصيانتها. وقد أصيبت هذه الحقوق اليوم بأعطابٍ عديدة، قد تتطلب كثيرا من الجهد والتضحيات والوقت لإصلاحها.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).