مفارقات أوروبا العجوز

مفارقات أوروبا العجوز

27 أكتوبر 2017
+ الخط -
تُوصف القارة الأوروبية بالقارة العجوز، بعد أن بلغ معدل العمر بين سكانها حدود الثمانين سنة، في مقابل تراجع معدل الولادات الجديدة إلى ما دون 1.3 طفل لكل امرأة. وترجع أسباب "طول العمر" إلى تقدم الطب والخدمات الصحية، وتحسن الغذاء والدواء، وتراجع وتيرة الحروب والصراعات الدامية. في المقابل، يعاني المجتمع الأوروبي الشائخ من ضعف وتيرة تجديد ذاته، بسبب عزوف الشباب عن الزواج وتأسيس أسر، أو ميول من يتزوجون إلى عدم الإنجاب، أو إلى تحديد النسل، والاكتفاء بإنجاب طفل أو اثنين، في أحسن الأحوال. يقول الباحث الكبير في مجال الديموغرافيا في أوروبا، وولفغانغ لوتز، من معهد الديموغرافيا في فيينا: "في الوقت الحالي يذهب 48% من الرجال الألمان ممن تبلغ أعمارهم دون الأربعين سنة إلى الاتفاق على أنه من الممكن أن يعيشوا ويكونوا حياة سعيدة من دون إنجاب الأطفال. قبل نصف قرن، كانت أوروبا تعيش النشوة، بفضل طفرة ما بعد الحرب التي حدثت في ولادات الأطفال، حيث كانت هناك نسبة 2.8 طفل لكل امرأة في بريطانيا، و2.9 لكل امرأة في فرنسا، و 3.2 لكل امرأة في هولندا، أما حاليا فلا يتجاوز معدل الإنجاب لكل امرأة في أوروبا 1.2%".
بمقارنة الأرقام المتشائمة مع ما تشهده أوروبا من حراك سياسي، واجتماعي، تظهر للمراقب مفارقات تستدعي الإمعان. أولها أن القارة العجوز التي تعاني من ترهل مجتمعاتها، ونقص الحيوية بين أجيالها، تبدو أكثر ميلا إلى الانعزالية، والانغلاق، والاتجاه نحو اليمين. ولا يبدو اليمين المحافظ، أو اليمين المتطرّف، الصاعد في أكثر من دولة أوروبية، مُكترثا بما تعانيه التركيبة المجتمعية من خلل، إذ يضع في مقدمة أجنداته السياسية، وبرامجه الانتخابية، مهمة إغلاق الحدود أمام المهاجرين الجدد، جاهلاً أو متجاهلاً أهمية المهاجرين لتجديد "شُبوبية" المجتمعات الأوروبية الشائخة. وقد أكد الخبراء المختصون في شؤون التزايد السكاني في أوروبا على الدور الفعال الذي ساهمت فيه النساء المهاجرات إلى أوروبا في زيادة معدلات الولادة، حيث أظهرت دراسات ارتفاع معدل الإنجاب في العائلات المهاجرة في كل من هولندا، وبريطانيا، والبرتغال، والنمسا، وإيطاليا، وألمانيا، وفرنسا، وإسبانيا من ثلاثة إلى ثمانية بالمئة بين عامي 1997 و2006. وهذا يعني أن المهاجرين الذين لا يرى فيهم الألماني – الأميركي، يوزف يوفه، إلا "خطراً جديداً يرتدي الملابس الرثة، بدلاً من البزّات العسكرية"، هم الدواء المُرّ، وعلى أوروبا أن تتجرّعه، إذا ما أرادت التشافي من شيخوختها، والتعافي من هرمها، وتجديد شبابها.
المفارقة الثانية التي تعيشها القارة العجوز، هي وصول جيل جديد من الشباب إلى سدة الحكم بانتخابات ديمقراطية، النسبة الأكبر من المصوتين فيها من جيل الشيوخ، إذ انتخب عجائز فرنسا المرشح، إيمانويل ماكرون، رئيساً، ولم يصل إلى الأربعين عاما بعد، وانتخب "ختايرية" نيوزلندا جاسندا آردرن (37 عاما)، فيما انتخب النمساويون مستشارا أكثر شبابا، سيبستيان كيرتس (31 عاما) وانتخبت أيرلندا الشاب ليو فارادكار (38 عاما) رئيسا للحكومة. وكأن الشيوخ والعجائز في أوروبا لا يتحرّجون من تسليم مقاليد حكمهم لجيل جديد من الشباب، يرون فيهم الأكثر قدرةً على مسايرة العصر، والأكثر قدرةً على مواجهة المشكلات، المستعصي والطارئ منها. ولا يرى شيب أوروبا ضيراً في التراجع إلى المقعد الخلفي، وتسليم مقود القيادة لجيل جديد من الشباب، تُعوّض حيويته ما ينقصه من حكمة الشيوخ.
المفارقة الثالثة، تتعلق بجيران أوروبا، نحن العرب. على عكس أوروبا، تعتبر المجتمعات العربية شابة بامتياز. ويُقدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي نسبة الشباب العربي الذين تتراوح أعمارهم بين 15-29 بنحو 30% من السكان في المنطقة العربية. ومع ذلك، يُرمى الشباب في المقاعد الخلفية، وتُسند القيادة إلى أيادٍ مرتجفة، بلغ بعضها "ربيعه" الثمانين أو أكثر.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.