الحق في الاستقلال والدروب المُوصَدة

الحق في الاستقلال والدروب المُوصَدة

26 أكتوبر 2017
+ الخط -
تابع المهتمون باستفتاءات الاستقلال مختلف الأحداث، التي أعقبت استفتاء كل من إقليمي كردستان شمال العراق، في 25 سبتمبر/ أيلول الماضي، وموقف الحكومة المركزية في إسبانيا، من استفتاء فاتح أكتوبر/ تشرين الأول الجاري في إقليم كتالونيا شمال إسبانيا. تمت عمليات الاستفتاء في الإقليمين في زمنٍ متقارب، وأثار الحدث في الإقليمين معاً جملة من ردود الفعل السياسية، كما فتح نقاشاً واسعاً في الأبعاد التاريخية والقانونية لمبدأي حق تقرير المصير واحترام الوحدة الترابية. إضافة إلى مواقف متناقضة ما بين مؤيِّد ومُعَارِض، سواء في الإقليم والدولة التي أنجز فيهما الاستفتاء، أو في محيطهما الإقليمي والدولي.
عندما ينتبه المرء إلى كيفية بروز أحداث مُمَاثِلة يُدْرِك جيداً أن التاريخ أكثر تعقيداً مما يتصوَّر بعض الفاعلين السياسيين، في لحظات معيَّنة من تاريخ مجتمعاتهم. إن ما حصل في كل من العراق وإسبانيا يدعونا إلى مزيد من التأمل في موضوع استفتاءات الانفصال والاستقلال، وفي المواقف التي ترتَّبت عنها، والتحوُّلات الجارية اليوم في سياق تداعياتها.
يستند حَسْمُ العراق في رفض الاستفتاء ونتائجه إلى التناقضات الكبيرة الحاصلة في الإقليم الكُرْدِي، وخصوصا التناقضات السياسية العميقة القائمة بين كل من الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، وهما قوتا الائتلاف القائم في الإقليم، على الرغم من كل الخلافات والتناقضات القائمة بينهما، إضافة إلى الضغوط الإقليمية التي تمارسها إيران على حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الأمر الذي سَهَّل على الحكومة المركزية في بغداد عملية إيقاف المسلسل الذي كان الإقليم يتجه نحوه.
وقد حصل الأمر بطريقة أخرى في إقليم كتالونيا، حيث اعتبرت الحكومة المركزية في مدريد 
أن الاستفتاء غير قانوني، بحكم أن دستور 1978 ينص على مبدأي وحدة المملكة الإسبانية والحق في الحكم الذاتي لأقاليمها. وبناء عليه، لا حق لسكان إقليم كتالونيا في الاستفتاء على الاستقلال.
أمر آخر ساعد حكومة مدريد على التدخل والحسم، يتعلق بالتداعيات الاقتصادية التي تلت عملية الاستفتاء المحاصرة، حيث اتجهت بنوكٌ وشركاتٌ إلى نقل مقرّاتها إلى مناطق إسبانية أخرى. كما أن إدانة كل من فرنسا وألمانيا ما حصل في الإقليم عزَّز الخيارات التي اتَّبعتها الحكومة المركزية في إسبانيا. وعلى الرغم من قوة الحسم الذي صدر عن حكومة مدريد، اتجه رئيس حكومة كتالونيا إلى إعلان نتائج الاستفتاء في البرلمان المحلي، معلناً أن نتائج الاستفتاء أقرّت الاستقلال، ومعلناً، في الآن نفسه، أن حصولَه الفعلي يرتبط بمسألة إطلاق حوار مع حكومة مدريد. لم تنته المسألة عند هذا الحد، ذلك أن الحكومة الإسبانية قرّرت تفعيل المادة 155 من الدستور التي تسمح لمدريد بفرض الحكم المباشر في حال حدوث أزمة مماثلة لما حصل، بهدف استعادة الشرعية في الإقليم.
يقع فعل مُمَاثِل في العراق، حيث فاجأت القوات العراقية الرأي العام المحلي والدولي، بسرعة سيطرتها على مواقع القوات الكردية المنسحبة من دون مواجهة، كما أطلقت الحكومة الإسبانية بعد ذلك مسلسل تنفيذ مقتضيات الفصل 155، القاضي بتولي الحكومة المركزية كل صلاحيات حكومة الإقليم، طبقاً للقوانين المرعية.. وكأن أفعال الاستفتاء التي حصلت كانت مجرد حكاية، وليس من أفعال التاريخ. وما يبدو مزعجاً، في مختلف هذه المواقف، هو السرعة التي تمت بها الأحداث الأولى، والسرعة التي تتم بها التحوُّلات الساعية إلى تجاوُزها.
نواجه في الحالتين معاً تناقضات، كما نواجه مواقف نُخَبٍ من إشكالات تاريخية كبرى. فكيف 
سهَّلت تناقضات النخب الكردية مواقف حكومة بغداد؟ وكيف يقبل حزب سياسي بناء موقفه من الاستقلال، من دون مراعاة مواقف الأحزاب الأخرى؟ كما يبادر إقليم كتالونيا، بمؤسساته وتنظيماته وعقود من الحكم الذاتي، في إطلاق فعلٍ يتجاوز الأحكام المتوافق عليها، والمحدّدة دستورياً في موضوع تعدُّد الدولة الإسبانية ووحدتها؟
نقرأ في المعارك التي أطلقها الاستفتاءان في الإقليمين، على الرغم من الخلافات المتعدِّدة بينهما وبين السياقات التي تؤطرهما، الملامح الكبرى لصراع سياسي وقانوني، تغذيه المعضلات السياسية والاقتصادية والتاريخية التي واكبت (وتواكب) الحدثين معاً، حيث لم تعد الشرعية الديمقراطية كافية لاحتواء النزعات الانفصالية. لقد أصبحت تثير اليوم إشكالات سياسية جديدة، كما أصبحت وحدة المتعدّد في الدولة الديمقراطية الحديثة لا تسمح بتعايُش أفراد المجتمع وتطويرهم، الأمر الذي يكشف، في النهاية، عن أن الدروب الموصدة أمام الاستفتاءات التي حصلت، أو أجهضت، تدعونا إلى وضع حدود جديدة للأنظمة السياسية في عالم متغير.. فلم تعد بعض الأنظمة الديمقراطية قادرة على إيجاد الحلول المناسبة للإشكالات التي يمكن أن تبرز هنا وهناك، حيث يفرض التعدُّد التعاون والتآزر، كما يفرض إمكانية إيجاد حلول مناسِبة للاختلالات التي يمكن أن تنشأ بين مكوِّنات الدولة الواحدة في زمن معين.

دلالات

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".