عن الظاهرة الحزبية في تونس

عن الظاهرة الحزبية في تونس

25 أكتوبر 2017

مناصرة لحركة النهضة في العاصمة التونسية (24/10/2014/فرانس برس)

+ الخط -
جاء في قانون الأحزاب في تونس الذي سُنّ سنة 1988، أي في بداية ولاية زين العابدين بن علي، ما مكّنه من البقاء في السلطة نحو ربع قرن، مستندا إلى شرعية مهزوزة، قوامها احتكار الحكم وتزوير الانتخابات، أنه "لا يجوز لأي حزب سياسي أن يستند أساسا في مبادئه أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه على دين أو لغة"، والمقصود الأحزاب ذات المرجعية الدينية الإسلامية ونظيراتها القومية العربية، خصوصا ذات المنشأ العروبي، اليوسفي (نسبة إلى صالح بن يوسف) منها. على عكس هذا القانون، جاء المرسوم عدد 87 لسنة 2011 المنظم للأحزاب السياسية، ناصّا على "حرية تأسيس الأحزاب السياسية، والانضمام إليها، والنشاط في إطارها، ويهدف إلى تكريس حرية التنظيم السياسي، ودعم التعددية السياسية وتطويرها، وإلى ترسيخ مبدأ الشفافية في تسيير الأحزاب السياسية"، من دون أي قيود سوى رفض "الدعوة إلى العنف والكراهية والتعصب والتمييز على أسس دينية أو فئوية أو جنسية أو جهوية"، هذا علاوة على أنه لم يعد يشترط الاعتراف بالهوية العربية الإسلامية لتونس، كما الحال في قانون سنة 1988. وقد كان لهذا التحول التشريعي الأثر العميق في تبدل أحوال الظاهرة الحزبية في تونس، وتغيّر ملامحها كمّا وكيفا، فتزايد عدد الأحزاب التونسية المعترف بها قانونا من تسعة، يمارس أحدها السلطة منذ ولادته سنة 1988، وهو التجمع الدستوري الديمقراطي، المنحلّ بموجب حكم قضائي صادر في مارس/آذار 2011، وثمانية أحزاب خارج السلطة، منها المعارضة ومنها الموالاة، أو ما كان يصطلح عليه بالمعارضة الكرتونية، مع تبادل الأدوار من فترة إلى أخرى، زاد إلى تسعة أحزاب بعد المائتين، والعدد في تصاعد مستمرّ.
من الناحية التاريخية والسوسيو-سياسية، تعد الطفرة الحزبية التي شهدتها تونس منذ سنة
2011 عنوان تحولاتٍ سياسيةٍ عميقة، واستجابة لمطلب تاريخي، وحاجة مجتمعية، هي حرية إنشاء التنظيمات السياسية، وتداولها على السلطة الذي طالبت به القوى السياسية التونسية المعارضة، منذ منع الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، نشاط الأحزاب السياسية، باستثناء حزبه الحزب الحر الدستوري سنة 1963، وأمر بحلّ الحزب الشيوعي التونسي، قبل أن يقرّ رئاسته مدى الحياة مبدأً دستوريا. ومن الناحية الرمزية، يشكل تكاثر الأحزاب نصرا لكل التنظيمات السياسية السرية التي لم تحقق حلمها في الاعتراف القانوني، والوصول إلى السلطة، بالنسبة لبعضها، فقط، وإنما تمكن هذا الصنف من الانزياح من غياهب السجون والمعتقلات وشظف الحياة فيها، إلى قصور الحكم ونعومة العيش بين جدرانها، مع تبادل الأدوار والوظائف والمواقع مع من تولوا السلطة قبل 14 يناير/كانون الثاني 2011، قبل العودة إليها من بوابات المعارضة والصندوق الديمقراطي.
لكن المفارقة التي آلت إليها التجربة الحزبية التونسية هي استفادة مجموعات وفرق سياسية من الريع الديمقراطي، وما صاحبه من نصوص دستورية وتشريعات وقوانين تجعل من حرية تأسيس الأحزاب هي الأصل، والمنع هو الاستثناء، ما مكّنها من تأسيس أحزاب وإعادة تنظيم نفسها، بل والوصول إلى السلطة عبر الانتخابات، وهي التي تنتمي تاريخيا إلى منظومةٍ قمعيةٍ تسلطيةٍ، لم تقبل يوما بالحق في تأسيس الأحزاب، وإجراء الانتخابات غير المزوّرة، والتداول السلمي على السلطة. وبالتوازي مع ذلك، شكل تأسيس الأحزاب موضة الحياة السياسية التونسية منذ سنة 2011، ذلك أن التنظيمات السياسية التي كانت جميعها في معجمية السلطة الدستورية الحاكمة نصف قرن أو يزيد هي جمعيات غير مرخص لها، يؤدي إحداثها إلى الاعتقال والمحاكمة والسجن، بما في ذلك الكثير ممن انشق عن الحزب الدستوري الحاكم، باتت اليوم أداة ارتقاء في السلم السياسي، ولم لا الوصول إلى السلطة وممارسة الحكم، والجلوس في المقاعد الأولى في المناسبات الرسمية، وفي المؤتمرات والمآدب والتشريفات.
وقد أنتج هذا التمثل للعمل الحزبي الأحزاب العائلية ونظيرتها القطاعية، وأخرى جهوية، وأغلبيتها ذات نزعة نخبوية، ليست لها امتدادات شعبية وتمثيلية برلمانية، ولم تستطع مسح الجغرافيا الوطنية والوجود في مختلف المدن والقرى والأرياف، فغاب وجودها عن المجتمعات المحلية.
وبدل من أن تلتقط الأحزاب السياسية أثر كثرتها السلبي، وتشتتها وانقساماتها المستمرة، وصراعاتها مع الأقربين والأبعدين، على طريقة القبائل في النظرية الأنتروبولوجية الانقسامية، الأمر الذي حولها إلى نوع من الباتولوجيا التي تصيب المجتمع السياسي، فتنهكه وتضعفه، وتخور قواه وتفقده مناعته، ويصبح محل خشية وهجران من جمهوره الذي ينخرط في الأحزاب، ويحضر اجتماعاتها، ويصوت لها في الانتخابات التشريعية والرئاسية والمحلية، استمرّ العمل الحزبي بعد سبع سنوات، وكأنه يرتكز، في لحظة التأسيس الأولى، على امتلاك الحقيقة المطلقة التي لا يأتيها الباطل من أمامها ولا من خلفها، محوره وسبب وجوده هو الزعيم الملهم الذي يبدأ عمله الحزبي من خلال عملية معكوسة، تنطلق من تعيين نفسه قائدا مؤسسا لحزبه، ثم يبحث عن أنصاره. وبعد ذلك، يتم تحديد الملامح الفكرية والأيديولوجية للحزب، قبل وضع معسول الكلام والوعود في شكل برنامج سياسي. وبهذه الصيغة، أسس عشرات الوزراء ورؤساء الحكومات السابقون في الحكومات التونسية المتعاقبة منذ الثورة التونسية، وحتى قبلها، أحزابهم على مقاسهم، وفق ما يرضي نهمهم السياسي الذي نما وتزايد بعد مباشرة وظائفهم الحكومية، بعد أن كان بعضهم نكراتٍ في عالم السياسة، قبل أن يدخلوا الحكم مرتدين جبّة التكنوقراط، وهو في الحقيقة نهم سلطوي، ورغبة في العودة إلى الحكم، وتمنية للنفس وإرضاء لها. والتزاما منهم مع مقاولي السياسة والسلطة في الداخل والخارج ممن وفرّ الأموال وسوّق في وسائل الإعلام، على أمل خدمة مصالحهم، وربح صفقاتهم عند تولي المسؤولية في هرم الدولة.
تتقاسم الخريطة الحزبية التونسية أربع عائلات سياسية وأيديولوجية كبرى، وهي القوى
الدستورية والليبرالية، القوى القومية العروبية، القوى الإسلامية، والقوى اليسارية الماركسية. وتتقاطع هذه المجموعات فيما بينها في منطلقات وعقائد سياسية كثيرة، مثل تقاسم فكرة العدالة الاجتماعية بين اليسار والقوميين الذين يتقاطعون في قضية الهوية مع الإسلاميين، ويجتمع اليساريون مع الليبراليين في تبني المسألة الحقوقية والحريات، فلا يحتاج المجتمع الحزبي التونسي إلى هذا الكم الهائل من الأحزاب التي بدأت تفتقد مصداقيتها لدى جمهورها، أي عامة الناخبين الذين وحدهم يمكن أن يعطوا شرعية لهذا الحزب أو ذاك، فيضخون في شرايينه الدماء التي تمكنه من البقاء على قيد الحياة من عدمه.
ومازالت الأحزاب العتيقة والحديثة النشأة تتجاهل الرأي العام الشعبي الذي لم يعد يرغب في مواكبة أنشطتها، ناهيك عن الانخراط فيها، وهذا مرده إلى ما حدث من تنكّر للوعود الانتخابية من الأحزاب الحاكمة التي فازت في الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014، وفشل هذه الأحزاب في إيقاف التدهور والسقوط الاقتصادي والاجتماعي الذي ينذر بحركة احتجاجية جديدة، قد تندلع في كل وقت، وفي كل جهة من جهات البلاد التي تعيش على وقع أزمةٍ اقتصادية ومالية حادة، فالعمل الحزبي ليس نزوة أو نزهة، وإنما هو التزام أخلاقي بالحفاظ على حياة الناس، والنهوض بمستوى عيشهم، وحفظ أمنهم، وتأمين مستقبل أبنائهم، فإذا به يتحول إلى مرض عضال، أو باتولوجيا مزمنة، مأتاها الأنانيات المفرطة وتقديس الذات، ما يؤدي إلى انقلاب المفاهيم وإنتاج العبث واللامعنى السياسي.