وجهان مغاربيان للتسلّطية

وجهان مغاربيان للتسلّطية

20 أكتوبر 2017
+ الخط -
سبق لصاحب هذه المقالة الكتابة عن موضوع "الحقرة" (الاحتقار في اللهجات المغاربية) عند الوفاة البشعة لبائع السمك المغربي، محسن فكري، في 28 أكتوبر/ تشرين الثاني 2016، دهسا داخل شاحنة رميت فيه بضاعته التي حاول استرجاعها، دونما فائدة بل وفاقدا لحياته. 
هنا عودة إلى هذه الظاهرة، وكذا ظاهرة "الحرقة" أيضا، أي محاولة الوصول إلى الضفة الشمالية للبحر الأبيض المتوسط على قوارب صيد، بالنظر الى تعلقها هذه بتلك، فالاحتقار هو سبب "الحرقة"، فهذا الهروب من نتائج التسلطية، ومنها، خصوصا، أنواع وضروب من الظلم الاجتماعي التي تختزنها مفردة"حقرة"، تعبيرا عن قطيعة أصبحت عميقة بين الحاكم والمحكوم في المغرب العربي، أوصل المواطن إلى ظاهرة الانتحار العمدي، للالتفاف على واقع أليم، وأملا في حلم عيش كريم، دونه مفاوز من الصعاب، بل وموصل إلى الموت المحتوم.
مجرّد محاولة تحليل هذا الواقع تقود إلى الحديث عن ملفات الحكم، الفساد وانعدام الانسيابية في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي ملفات قديمة/ جديدة، ما انفكّت الأنظمة، حتى مع التغيير الذي أدخله الحراك العربي لسنة 2011، في بعض الدول، وخصوصا تونس، تسيرها للارتداد عن فسحة التغيير، أو تكريسا للوضع القائم المتسم بالانسداد الكامل.

بالنسبة لقضية الحكم، العلاقة شبه منقطعة بانقطاع أواصر "العقد الاجتماعي" الذي بموجبه يحكم الحاكم بتفويض من المحكوم، على أساس قاعدة تبادل المنافع وحصول الشعب على الأمن والعيش الكريم. تعبر عن هذا الانقطاع ظاهرة العزوف عن المشاركة في المواعيد الانتخابية، وفي مستوى متقارب في البلدان المغاربية الثلاثة (الجزائر وتونس والمغرب)، وهو العزوف الذي يعكس عدم الثقة بين القاعدة (الشعب) والقمة (الدولة ممثلة في نظامها السياسي الحاكم)، من خلال مظاهر فوقية مكرّسة: عدم المساواة، غياب/ تغييب أدنى شروط احترام الكرامة الإنسانية، عدم السماح بمبدأ دوران/ تجديد النخب، إضافة إلى غياب/ تغييب المبدأ الأكبر، وهو: تكافؤ الفرص، ما ينتج عنه مجتمعات طبقية، لكن بمستويين فقط مغلقين: القمة (النخبة) وعامة الشعب (الطبقة الوسطى المفترضة، الطبقات العاملة والفقراء...).
يشدّد الحكم قبضته على المجتمع، من خلال آليات عديدة، منها شراء الحلفاء وبناء توازنٍ، يسير به النظام السياسي بتوسيع قاعدة المنتفعين، وهي المنهجية التسييرية التي تنتج استفحال ظاهرة
الفساد، وتغلغلها في أجهزة الحكم أو في هوامشه (رجال الأعمال، قطاعات واسعة من النخبة العاملة لصالح النظام، أو القريبة منه من خلال مناقصات، مشاريع أو رخص الاستيراد).
يسمح الفساد وتداعياته بتكريس مبدأ عدم المساواة، إذ من مظاهره غياب/ تغييب مبدأ تكافؤ الفرص، سواء في الوصول إلى المناصب، أو في الاستفادة من المشاريع والمناقصات، بل يذهب الأمر بعيدا في المغرب العربي، ليصل إلى نسب كبيرة من الاقتصاد القومي، تكون خارج إطار المحاسبة الوطنية، أو ما يعرف بالقطاع غير الرسمي، والذي تصل أرقام الأعمال فيه لبعضهم من وجوه رجالات الأعمال أو المنتفعين من "ريع الأنظمة" إلى مليارات الدولارات.
وهناك ظاهرتان أخريان ملتصقتان، بشدّة، بالفساد، التهريب المالي إلى الخارج، لشراء ممتلكات والتغطية على رساميل الفساد هناك، إضافة إلى ظاهرة التهرب الجبائي، والتي تصل أرقامها، كذلك، إلى المليارات، تصنع العجز في ميزانيات الدول، وتمنع وصول الخدمات الصحية، والتربوية ومناصب الشغل إلى الطبقات الدنيا، موجدة الفقر والرغبة في الانتحار، من خلال "الحرقة"، إلى الضفة الأخرى، ضفة الأحلام، جنوب أوروبا.
تنتهي الظاهرتان المذكورتان بانتشار القطيعة بين الحاكم والمحكوم، ممثلّة، هذه المرة، في انعدام انسيابية تلك العلاقة بين الطرفين، وهو التجاهل الذي أصبح طاغيا على فضاءات التلاقي بينهما، وفي كل الميادين، ما نتج عنه ثقافة سياسية جديدة في المغرب العربي، يمكن تسميتها ثقافة "التجاهل المتبادل".
تنتشر تلك الثقافة السياسية الجديدة في لغة التخاطب/ التعامل الصريحة والضمنية في خط مستقيم بدايته "الحقرة" (الاحتقار) ونهايته "الحرقة" (السفر غير الشرعي في قوارب الموت)، وعلى طول ذلك الخط نجد محطات/ ظواهر العزوف الانتخابي، العصيان المدني المتمثل في الاحتجاجات، الاعتصامات، المظاهرات (عندما تكون مرخّصة)، الامتناع عن دفع الضرائب، الامتناع عن دفع الفواتير الخدمات (الغازـ الكهرباء، الماء) إضافة إلى رفض بعض مظاهر الوجود الرسمي لرموز الدولة في بعض المناطق.
تحاول الشعوب، من خلال هذه السلوكات، بناء وعي جديد لعقل مستقيل عن إرادة الدولة ورموزها، كما تحاول استغلال فضاءاتٍ غابت عنها الدولة، لتظهر رموز تلك الثقافة، وخصوصا على مستوى المجتمعات المدنية التي تفوق في وعيها، وفي سلوكاتها اتجاه المجتمع، ما هو منوط بوظائف الدولة في المجتمعات العادية.
هل يمكن تسمية هذه الثقافة السياسية الجديدة "العقل المغاربي الجديد"؟ هذا السؤال تم الحديث
عنه باستفاضةٍ في منتديات وسائل الاتصال الجماعية التي نجحت في بعض المناطق الجزائرية، على سبيل المثال، في تلبية حاجيات مجتمعية، على غرار دفع تكاليف العمليات الجراحية، التكفل بالدروس الخصوصية في المساجد والمنتديات الاجتماعية، التكفل بالاحتياجات الضرورية للفئات المهمشة ذات الدخل المنخفض، والتي اكتوت بنيران التهاب أسعار كل المواد في الأعوام الأخيرة.
بدأ هذا العقل المغاربي فرض وجوده بديلا عن سلطة دولٍ تخلّت عن فضاءات القيام/ التكفّل ببعض وظائفها، وهو تخلٍّ يمكن رده إلى الأزمات الهيكلية التي ما فتئت تقع فيها دول المنطقة، بسبب غياب الحوكمة الحقيقية والرشادة في إدارة شؤون المجتمعات بكفاءة في التسيير، أو بالأشخاص الحاملين لهذه الصفة.
هذا العقل المغاربي الجديد بآليات التعليم، حيوية مجتمعاتها المفعمة بالشباب، ووسائل التعبير الافتراضية التي توفرها الشبكة العنكبوتية أنتج "مجتمعا مدنيا" جديداً، يتحرك في العالم الافتراضي، ويحتل فضاءاتٍ مجتمعيةً، تخلّت عنها الدولة، فاتحا مجالات لديمقراطية جديدة، يمكن تسميتها بالديمقراطية القاعدية التشاركية، لعل من أولى مظاهرها مسابقات القرى النظيفة التي تنظم دوريا في منطقة القبائل في الجزائر، والتي أبرزت أهمية العمل الاجتماعي القاعدي، وأهمية الاهتمام بالبيئة، إضافة إلى مظاهر العمل الجماعي البعيدة عن تجاذبات السلطة ورموزها.
تلك، إذن، معطيات التّلاقي بين ظاهرتين تصنعان حاضر المغرب العربي في قوارب موت جماعية، تحمل عائلات بأكملها، تشترك في إبراز حالات الموت البطيء المشبّع باليأس وغير المصدّق، بتاتا، لوعود سلطاتٍ أعلن طلاقه منها بالثلاثة، كما يقول المغاربيون.
قد لا تكون مصادفةً أن تشهد المنطقة كلها ميلاد هاتين الظاهرتين، وهما فارقتان في صنع واقع سياسي فريد، بدأ بالعزوف الانتخابي، وينتهي، الآن، بتحرّك حقيقي على مستوى قاعدي، موجدا وعيا جديدا وعقلا مغاربيا فريدا، وبآفاق لتغييراتٍ مجتمعيةٍ، قد تبرز تصاعديا، لتنهي عصورا من "التجاهل المتبادل" بالقضاء على "الحقرة" المفضية إلى "الحرقة"...