رواية سودانية لكاتبة أردنية

رواية سودانية لكاتبة أردنية

20 أكتوبر 2017
+ الخط -
تفيد رواية الأردنية سميحة خريس "فستق عبيد" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2017) من نيْلها، الأسبوع الماضي، واحدةً من جوائز كتارا للرواية العربية، بلفت الانتباه إليها، وإلى قيمتها الخاصة، بل وأيضا إلى المغامرة التي تضيفها في مدوّنة الرواية العربية الجديدة، لتحوز على مقروئيةٍ أوسع، ولا سيما إذا أُحْسن توزيعها، وخَدَمتها الصحافة الثقافية العربية (كما فعل موقع "ضفة ثالثة" قبل الجائزة)، وأيضا إذا أعادت دار نشرٍ أكثر همّة إصدارها. الرواية (247 صفحة) سودانية الأجواء والروح، إلى حدٍّ كبير، وإنْ راحت، في مساحةٍ واسعةٍ من السرد فيها، إلى أمكنةٍ وفضاءاتٍ في خارج السودان، فتولدت في هذه المساحة رواية من روايةٍ، أو حكي موصول بحكيٍّ أول، فثمّة راويةٌ ينفتح النص بسرده، ثم يحدث انتقالٌ إلى آخرين يسردون، أبرزهم حفيدة ذلك الراوي. وقد ساعد هذا الخيار الحكائي، مع تغييبٍ لصوت المؤلف، في الإيحاء بالدلالة المهمة لأن يحكي عبيدٌ مستضعفون بأنفسهم مروّياتهم، قصَصهم، أشواقهم، توقَهم المقيم فيهم إلى الحرية، لا أن ينطق غيرهم عنهم. وقد أفاد دارسو السرديات بأن الإنسان يخلّد معنى وجوده، عندما يحكي ذاتَه، وعلاقته بالعالم. أما الكاتب المؤلف نفسه، فيسعفه هذا الشغل في تثوير مطارح الخيال لديه. وعندما تذهب سميحة خريس، في روايتها الرابعة عشرة المنوّه بها هنا، إلى ماضٍ لم تشهده، إبّان الحرب العالمية الثانية، وإلى مناطق لم تعرفها في السودان وخارجه (وإنْ أقامت سنواتٍ في السودان)، فإنها، في لعبتها السردية هذه التي استحقّت تكريما عربيا جديرةً به في جائزة كتارا، تتحدّى نفسها، وتختبر إمكاناتها التخييلية، وأظنها نجحت في ذلك إلى حدٍّ ظاهر، يقع عليه قارئ هذا العمل، وفي البال أن رواية سابقة لكاتبتنا "بابنوس" (منشورات ضفاف ومنشورات الاختلاف، بيروت، 2014) انشغلت بقضية إقليم دارفور. 

اللغة عالية الحرارة، ما له صلةٌ بالانشغال العام للرواية بالعالم النفسي لدواخل الشخصيات المركزية. لسنا أمام اعتناءٍ زائد بأوصاف خارجية، ولا بإحالاتٍ مفرطةٍ إلى حوادث سياسية واجتماعية، وإن تحضر ثورة المهدية، وكذا أوضاع السودان زمن الاحتلال الإنكليزي، وإنما بما يمكن تعيينه سردا نفسيا، وقد أجاز نقاد قديرون هذا المفهوم، يحكيه الرواةُ ليسمَعَه منصتٌ، أو ليكون مونولوغا تذكّريا في مواضع غير قليلة، فالحياة الداخلية للحفيدة التي بيعت عبدةً، وارتُحل بها إلى الجزائر وإسبانيا والبرتغال، هي العماد الأساس لمبنى النص في شطره الثاني، عندما تتولى الحكي بعد جدها الذي سرد قصته منذ عبوديته الأولى إلى تحرّره، منذ كان اسمه كامونقه إلى ما بعد أن صار اسمه معتوق، مرورا بزواجه من محبوبته التي وقعت عيناه عليها في سوق الإماء، وفي غمرة حبّه لها كان ينسى أنه عبد. يروي هذا الجد ويروي، وتسمع الحفيدة صاحبة الحكاية الأطول في رواية سميحة خريس. تنتهي حكاية كامونقه عائدا إلى نيالا في دارفور، ليزرع الفستق ليشبع منه الأطفال، فلا يظل فخّا يُستدرجون به إلى العبودية، عندما يُختطفون. ثم تروي الحفيدة رحمة وتروي، ويلتقي محكيّها أحيانا مع محكياتِ آخرين يروون، لينفتح العمل على جهدٍ سردي متماسك، تلملمه قصة العبودية نفسها، والاستبداد المريع في أثنائها، حتى إذا حملت رحمة (وقد صار لها أكثر من اسم) بمولودةٍ ممن لن يعرفه مالكوها، تزداد جرعة التوتر الظاهرة في تسارع النص إلى خواتيمه، لتأتي المولودة من "السود الذين يجري في دمائهم بياض آبائهم".
ليس من صالح "فستق عبيد" تقديم هذه السطور (وغيرها) إيجازا لها، وإنْ في صالحها ربما الإحالة إلى المرسلة العميقة التي تُختتم بها، عندما يتمرّد سودٌ على عبوديتهم واستخدامهم، وعندما تعود رحمة إلى دارفور. وفي صالح الرواية هنا أن يثمّن جديدٌ فيها أنجزته سميحة خريس في متن "محكيّ الانتساب العائلي" في الرواية العربية، وهو أحد أشكال راهنة في بحث الروائي العربي عن مطارح أخرى، غير مطروقةٍ ربما، لبثّ قلقه بشأن حكاية المجموع الإنساني، لا العربي فحسب، وهنا بالضبط موقع الاحتفاء برواية "فستق عبيد"، السودانية بقلم كاتبة أردنية.
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".