بناء الإنسان الفريضة الغائبة

بناء الإنسان الفريضة الغائبة

18 أكتوبر 2017
+ الخط -
نشر الأديب البرازيلي باولو كويلو قصة قصيرة: كان الأب يحاول أن يقرأ الصحيفة، لكن ابنه الصغير لم يكفّ عن مضايقته. وحين تعب الأب من ابنه، قطع ورقة في الصحيفة كانت تحوي خريطة العالم، ومزّقها إلى قطع صغيرة، وقدّمها لابنه، وطلب منه إعادة تجميع الخريطة، ثم عاد إلى قراءة صحيفته، ظانا أن الطفل سيبقى مشغولا بقية اليوم، إلا أنه لم تمر خمس عشرة دقيقة، حتى عاد الابن إليه، وقد أعاد ترتيب الخريطة. فتساءل الأب مذهولا: هل كانت أمك تعلمك الجغرافيا؟ رد الطفل: لا، لكن كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من الورقة، وعندما أعدت بناء الإنسان.. أعدت بناء العالم.. كانت عبارة عفوية؛ لكنها ذات معنى عميق.
ليس بناء الإنسان العربي حلما رومانسيا، بل هو مطلب واقعي ويحتاج إلى رؤية، والمشروع وبرنامج لتغيير الواقع، وليس لإدارة الوضع القائم بكل أعطابه.
لن نصنع العجلة من جديد، فمشروع الرؤية العامة لبناء الإنسان المعاصر موجود في المنجز الإنساني الغربي، مع اختلاف في التفاصيل والأولويات وبعض الخصوصيات. يرتكز بناء الإنسان اليوم على دعامتين أساسيتين: الحرية والسعادة. والحرية تعني سياسيا حق الشعب في اختيار من يحكم، وبناء دولة الإنسان وليس إنسان الدولة، أي إقامة ديمقراطية تسمح بالتعبير عن إرادة الأمة، وبتداول السلطة بين الأحزاب، عبر انتخاباتٍ حرة. أما الحرية الاقتصادية فتعني حق المواطن في التملك والعمل والمبادرة والمنافسة الحرة وتكافؤ الفرص، ووجود قضاء مستقل يقوم بوظيفة الحكم وتطبيق القانون على الجميع، لتحقيق المساواة. أما الحرية الدينية فتعني حق كل مواطن في الإيمان أو عدمه، والحق في ممارسة طقوسه الدينية بحرية، مع خروج الدولة من الشأن الديني، وعدم توظيف المعتقد سياسيا. أما الحرية في المجال الفكري فتعني حرية القول والنشر والكتابة والتعبير بدون خطوط حمراء، ولا تابوهات سياسية أو اجتماعية، بحيث يفتح المجال للإبداع وللخلق والابتكار، ولتطوير الشق اللامادي في حياة الفرد والمجتمع. وتعني الحرية على المستوى الاجتماعي بناء مجتمع مفتوح ومتعدّد لغويا وإثنيا ودينيا. مجتمع متحرّر من وصاية الدولة ورجال الدين وأشكال التنظيم القبلي والطائفي القديم. مجتمع حر تتفاعل فيه الأفكار والمشاريع وأنماط العيش وأشكال التعبير الرمزي والمادي، من دون قيود سوى ما يفرضه قانون الاجتماع البشري الحديث، حيث الاعتراف بالفرد أولا، وبالمجتمع المدني ثانيا، وبالمنظمات الدولية فاعلا يمثل المجتمع الدولي داخل حدود كل دولة، تعبيرا عن وحدة المصير البشري. هذه مقومات الحرية في خطوطها العريضة. أما الشق الثاني من مشروع بناء الإنسان الحديث في القرن الـ21 فهو السعادة.
مرّ الإنسان في تسلسل طويل للحاجيات، بدأت بالحاجة إلى الأكل ليعيش، ثم احتاج الأمن ليحيا في اطمئنان، ثم أصبح في حاجة إلى الدين أو الأسطورة، لفهم العالم والجواب عن السؤال الأشهر: من أين أتينا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ مع تطور المسيرة البشرية، أصبح الإنسان بحاجة إلى العلم لفهم الطبيعة، والتكنولوجيا لتطويع هذه الطبيعة، ثم انتقل إلى الكماليات، ومن الاكتفاء الذاتي إلى طلب السعادة المادية والمعنوية، لفردٍ يعيش في عصر معولم، له الأحلام نفسها، سواء في أميركا أو في أستراليا أو في كوريا الشمالية أو في الهند أو المغرب أو السعودية.
يذهب الناس اليوم في أوروبا وأميركا إلى التصويت على من يحسّن دخول جيوبهم ومدارسهم وبيوتهم ومستشفياتهم وطرقهم وصناعتهم وميزانية بلادهم، ودولة الرفاه التي يحلمون بها. لأن القيم الجديدة للحياة تقول للبشر إن الأصل في الحياة المعاصرة أن يكون الإنسان غنيا، أو مكتفيا على الأقل، وليس فقيرا، على عكس القيم القديمة أن الفقر هو الأصل والغنى الاستثناء، وأن الحرب هي الأصل والسلام الاستثناء، وأن المرض هو الأصل والصحة الاستثناء، والشقاء في الأرض هو الأصل، أما السعادة ففي الجنة.
تغيرت هذه القيم الاجتماعية والثقافية اليوم، وأصبح الإنسان، مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أو بوذيا أو بدون دين، يسعى إلى امتلاك بيت وأسرة وهاتف وثلاجة وسيارة وتلفزيون وبطاقة تأمين، ومستوىً من التعليم ووسائل لتحقيق أحلامه وطموحاته. لهذا بدأت الشعوب تميل إلى شرعية الإنجاز، وإلى الزعامات السياسية والاجتماعية والدينية التي تحرّرها وتسعدها في الوقت ذاته.
A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.