متلازمة المعاناة والإبداع

متلازمة المعاناة والإبداع

14 أكتوبر 2017
+ الخط -
يحار الناس في العلاقة التي جمعت الإبداع والمعاناة حتى أصبحت العلاقة بينهما في عداد الألغاز المعقدة. هذه المتلازمة يلاحظ فيها سيطرة محنة أو معاناة شديدة تحمل في طياتها بروز وتألق ملكة أو قدرات غير عادية، فتتسارع ضربات الفؤاد مع تفاصيل هذه المتلازمة. قد نجد شغفا بمثل هذه التفاصيل يعيننا على ملاحقة أحلامنا في الحياة، وفي الوقت نفسه، قد نشعر بمرارة تعتصر الفؤاد إذا ما تخيلنا أننا في مكان شخوص هذه المتلازمة. لقد فطن الناس لهذه العلاقة من قبل دون أن يغوصوا في تفاصيلها، ولذلك قيل: "إذا كفَّت الشعوب عن الشكوى؛ كفتْ عن الإبداع".
إدغار آلان بو، يبدع قصيدته الغراب في عشر سنين، ليتقاضى عنها دولارين أو أقل، في حين يحصد من حصلوا على مخطوطة تلك القصيدة بعد ذلك عشرين ألف دولارا! انتهى بو من تعديل قصيدته وأذاعها للمجتمع الأميركي عام 1845 وكان مُعدمًا للدرجة التي أجبرته على اجتزاز عشب الحديقة وسلقِ هذا العشب؛ ليطرد عنه وزوجه غائلة الجوع، ولولا أن تداركته سِلال الفاكهة والخضروات من بعض جيرانه، لأجهز عليه الجوع سريعًا. يمكننا اعتبار بو جزءا من تعميق معاناته؛ فهو الشاعر الفذ الذي كتب نهايته بنفسه من خلال معاقرته الطويلة للخمر، وفي هذا السبيل انفرط عقد ملكاته الأدبية وسقط في بركة النسيان.
لعلَّ قصة حياة إدغار آلان بو، تنقلنا، في بعض تفاصيلها، إلى الجزيرة العربية إبان البعثة المحمدية؛ فقد سمع أحد الشعراء بظهور النبي الخاتم، فقرّر أن يسمع منه مشافهةً من دون راوٍ أو وسيط. كان هذا الشاعر معروفًا في الجاهلية بصناجة العرب ومن أصحاب المعلقات، ميمون بن قيس، ولُقِّبَ بالأعشى لضعف بصره أما كنيته فكانت أبا بصير. وقالت العرب: "أشعر الشعراء في الجاهلية امرؤ القيس إذا ركب، والنابغة إذا رهب، وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب"؛ فكان الأعشى مولعًا بالشراب وحين بلغه نبأ نبي الإسلام قرّر أن يمتدح الرسول على عادته في مدح سادات العرب، وحَاكَ قصيدةً يُلقيها بين يدي المصطفى الكريم، وفي بعض الطريق مرَّ بأبي سفيان وأخبره وجهته؛ فحذَّر أبو سفيان قريشًا بقوله: اتقوا لسان الأعشى؛ فإنه عزم على مدحِ محمد! فجمعت له قريش مائة من الإبل، وقال له وجهاء القوم: إنَّ محمدًا يحرِّمُ الخمر؛ فلما سمع منهم ذلك قال الأعشى: "أتروَّى منها سنةً ثم أعود"؛ فمات الأعشى في هذه السنة على الشرك وأضاع على نفسه من الخير ما الله به عليم، ومات إدجار آلان بو في أحد شوارع مدينة بالتيمور في السابع من أكتوبر عام 1849 بعدما حطّمت الخمر حياته.
وتحت وطأة الفقر المدقع، يرسل أحمد عيسى الماغوط رسالة إلى المدرسة الثانوية الزراعية، يسألهم فيها تخفيف الرسوم الدراسية عن كاهله وولده محمد؛ فأقْدَمَ بعض المسؤولين على تعليق الرسالة في بعض الأماكن البارزة في المدرسة، ربما من باب السفه أو من باب الدماء المتجمدة في عروق هؤلاء؛ ليصبح الطالب محمد الماغوط أضحوكةً بين أقرانه. يترك الماغوط المدرسة ويعود إلى فلاحة الأرض إلى جوار والده، لكن الصبي الذي استخف به السذج قرّر أن يكون له مع الحياة شأنٌ لم يَدُرْ بأحلام الراقصين على جُرحِه النازف. تاقت نفس الماغوط للأدب والصحافة؛ فانبرى يجمعُ شتات نفسه، وألقى بها في أمواج الصحافة والأدب الساخر، وقد حفر اسمه بحروفٍ مضيئة من الإبداع؛ وانضم إلى فيلق العظماء الذين لم يحصلوا على شهادةٍ جامعية. وأن تعاني فتبدع خيرٌ لك من أن تعيش خامل الذكر.
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
D14DCC9E-4695-4E3F-AF5D-957B3D79F68C
محمد الشبراوي (مصر)
محمد الشبراوي (مصر)