عن الوسطية والاعتدال

عن الوسطية والاعتدال

14 أكتوبر 2017
+ الخط -
تهدف هذه المقالة إلى نقد مقولة "الوسطية والاعتدال" الرائجة جداً في صفوف النخب العربية التي تريد إقامة تخوم سياسية وفكرية بين التطرّف والإرهاب اللذين يصمان المسلمين السُنة في العالم اليوم، وبين جمهور المسلمين الذي يرفض التعصب والكراهية. والمقولة الجارية على الألسن والأفواه ما برحت تردّد أن الإسلام هو دين الوسطية والاعتدال، وأن أهل السُنة والجماعة هم مَن يمثل، تاريخياً وعقيدياً، الوسطية والاعتدال معاً، وأن السُنة، عرباً وعجماً، لم يمثلوا قط الحضن الاجتماعي والحضانة الفكرية لمنظماتٍ مقاتلةٍ من عيار القاعدة ومشتقاتها كجبهة النصرة والدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) وأمثالهما. والسُنة، فوق ذلك، مخالفون، في الأصل، للأفكار التي تغتذي عليها المجموعات السلفية المحاربة، قديماً أَكانت أم حديثة، لأن تلك المجموعات المحاربة، في أغلبيتها، ذات منشأ ريفي، بينما السُنة العرب، عدا سكان نجد والبوادي الأخرى، هم، على العموم، سكان مدن وتجار، وهؤلاء ميّالون، بالمصلحة على الأقل، إلى الاعتدال والحلول الوسط.
الوسط، بالمعنى اللغوي المباشر، هو ما كان واسطةً بين حدين، أو بين طرفين، ومنه الأوسط، وهو اسم تفضيل بمعنى الأقرب إلى القصد، أي إلى الاعتدال، والأبعد عن الغلو. ومن القصد اشتُق مصطلح الاقتصاد. والحقيقة أن ثمّة خلطاً معيباً في المفاهيم والمصطلحات الإسلامية الدارجة؛ فالوسطية في الفكر الإسلامي الرائج لا تعني، في الأساس، التوسط بين شيئين أو
نقطتين أو أمرين كما هو منطوق الآية: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" (البقرة: 238)، فالصلاة الوسطى، بحسب معظم الفقهاء السابقين واللاحقين، هي صلاة العصر الواقعة بين صلاتي النهار والليل. ودلالة اللفظ تحولت إلى معانٍ جديدة مفتعلة، وليست مبتكرة على الإطلاق، لأن الأساس العقيدي الذي انطلقت منه مقولة "الوسطية والاعتدال" موجود في القرآن بالتحديد: "وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس" (البقرة: 143). وهذه الآية يفسرها بعضهم على النحو التالي: نحن أمة وسط في الإيمان والعقيدة، أي أن هناك مَن أنكر وجود الحق، وهناك مَن أسرف، فجعل الآلهة متعدّدة، وكلا الطرفين مخطئ. أما الإسلام فهو دين وسط بين الإلحاد وتعدّد الآلهة، ووسط بين الروحانيات والماديات. وهنا، لن أجازف في الاستنتاج، إذا قلت إن مثل هذا الاستنباط هو الإسراف بعينه؛ الإسراف في استحلاب معنى محدّد لنص لا يحتمل ذلك المعنى. ومع ذلك، يخالف بعضهم هذا التفسير، لأن التوسط لا قيمة له كي يصبح أصحابه "شهداء على الناس"، الأمر الذي يشير إلى معنىً آخر متوارٍ خلف ظاهر النص.
.. الأوسط هو الأفضل بحسب اللغة وبحسب القرآن معاً. "قال أوسطكم" (القلم: 28)، أي قال أفضلكم رأياً. وآية "إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون به أهليكم" (المائدة: 89) تعني من أفضل ما تطعمون به أهليكم. والوسط في قومه هو أعلاهم مرتبةً، والذي ينزل الناس على حكمه، أي العادل. ويقال: هو من أوسط قومه، أي من خيارهم. ووَسَط الرجل، أي صار شريفاً. ووسيط قومهم أرفعهم مجداً، والوسط هو الأجود. لهذا قيل إن قريش أوسط داراً، أي الأجود بين العرب. ويغالي بعضهم في تفسير عبارة "وجعلناكم أمة وسطاً"، فيرى أن الله جعل المسلمين دون الأنبياء وفوق الأمم. وحتى ابن كثير في تفسيره يقول إن الله جعل المسلمين خيار الأمم، ليكونوا يوم القيامة شهداء على الأمم. واستطراداً، فإن الوسطية لدى هؤلاء هي الأفضلية، أي أن لهؤلاء حق الإشراف والولاية على الغير، فالوسط هو الشريف الذي يجلس في وسط المجلس، ويتوزع الآخرون إلى شماله وإلى يمينه. وفي هذا الميدان، لا أميل ألبتة إلى هذه التفسيرات التي يتم استجلابها من زمن سحيق مضى، وإنعاشها بتفسيرات حديثة، علماً أن الوسطية، بمعنى الاعتدال، كانت قيمة مرذولة عند العرب، فأحد الشعراء يقول: نحن قوم لا توسط عندنا/ لنا النصر دون العالمين أو القبرُ.
ثمّة إذاً تضليل في الحديث عن "الوسطية والاعتدال". والذين طفقوا، منذ خمسين سنة، يروجون مصطلح الوسطية ويؤصلونه على طريقة الكُتاب المتمشيخين، أي منذ بداية ظهور الجماعات الإسلامية المقاتلة في مصر، ثم في سورية، بات عليهم أن يفتشوا عن مصطلح آخر
غير الوسطية، ويتركوا تفسير "وجعلناكم أمة وسطاً" للمفكرين لا للمشايخ. ومن غير الجائز اليوم، وليس صحيحاً بالطبع، أن يحتكر أحد فضيلة الاعتدال، وينسبها إليه وحده، لأن الاعتدال والتطرّف ليسا حكراً على طائفةٍ من الناس أو جماعة بعينها، بل هما موجودان، بمقادير متفاوتة، لدى كل جماعة، وتميل كفّة التطرّف دائماً ما إن تُحوّل هذه الجماعة إيمانها إلى سياسة.
قصارى القول في هذه المسألة إن الاعتدال إذا كان أمنية في الرؤوس أو رغبة في النفوس، فإن الواقع يقول بوضوح، كالشمس في رابعة النهار، إننا أمة غير معتدلة على الإطلاق. وهكذا تتحول عبارة "الاعتدال و الوسطية" إلى مجرد مقولة إنشائية مسطورة في الكتب وفي المجادلات، على غرار مقولات أخرى، برهن التاريخ الجلي أنها مقولات سامية تعكس ما نريد لا ما نحن، فمع القول إن المسيحية دين الرحمة، لم يكن المسيحيون رحماء ألبتة حين زوّجوا الدين إلى السلطة. ومع القول إن الاسلام دين التسامح بالفعل، فإن المسلمين حين أنشأوا ملكاً عضوضاً صاروا غير متسامحين على الإطلاق، والتاريخ زاخر بآلاف الوقائع والشواهد التي تبرهن هذه الخلاصة.