رأيت في ما يرى النائم

رأيت في ما يرى النائم

12 أكتوبر 2017
+ الخط -
رأيت، في ما يرى النائم، أنني لست نائماً يسبح في بحر نومه، ولا مستيقظاً يتأهب للقيام بفعلٍ ينتظره. كنت في منزلة بين المنزلتين، حيث نقلتني الإغفاءة اللذيذة التي حصلت لي، لتضعني أمام خياراتٍ سياسية قابلة للتصور.
بدا لي أن ما جرى ويجري منذ ثلاثة أشهر بين دول الخليج، من تبادُل للاتهامات، ومن مطالب ترفعها ضد بعضها، وما ترتَّب عن ذلك من مناوشاتٍ تدعو إلى القلق والانزعاج، كما تدعو إلى التفكير في مستقبل الخليج العربي. كان كل ما جرى مجرد سحابة صيف عَبَرَت، ولم تخلِّف ما يستحق الرواية والذِّكر. ذلك أن القائمين على مجلس التعاون الخليجي بادروا إلى عقد اجتماع استثنائي، قصد تحليل أوجه الخلاف الحاصل بينهم، في مختلف أبعادها، وبلورة الحلول التي تجنب مجتمعاتهم مواقف وخياراتٍ لا تُبْقِي ولا تذر.
اجتمع الْحُكَّام تحت راية المجلس وأحكامه، ووفق المساطر المعتمدة فيه، وتحدثوا بلغة واضحة، عن الأسباب الفعلية التي هيأت للمأزق الذي صنعوا لأنفسهم، أو تواطأوا مع آخرين، تحت ضغط حساباتٍ عديدةٍ من أجل حصوله، ولعلهم لم يدركوا الأبعاد والمخاطر التي يمكن أن تَنْتُج من عمليات التصعيد، وهي عملياتٌ نتعلم من تجارب التاريخ أنه لا شيء أسهل منها.
تضمَّن جدول أعمالهم نقطتين أساسيتين: رفع الحالة الراهنة، ووضع مخططات وبرامج لتطوير آليات عمل المجلس. وقد توقفوا مطولاً أمام تداعيات ما حصل، وهي تداعياتٌ أَدْخَلَت الإعلام 
الخليجي في مُهَاتَرَات ومُزَايَدَات، لا تقترب من المسائل الخلافية القائمة فعلاً بينهم، ذلك أن عمق الاختلافات بين حكام الخليج يتعلق بجملة من المعطيات المرتبطة بسياقات التحوُّل التي تجري اليوم في المشرق العربي، وتشمل التحركات والمواقف التي تمارسها القِوَى الإقليمية، إيران وتركيا، كما تشمل أدوار القوى الدولية، أميركا وروسيا وبعض الدول الأوروبية، وتنعكس آثار ما سبق ذكره في صوَر التحوُّل الجارية، وذلك منذ حصول انفجارات 2011، وما ترتَّب عنها من أحداث ومواقف.
تبادلوا الرأي في سياق متغيرات الراهن العربي والإقليمي والدولي، وانطلاقاً من الدينامية التي رتبتها متواليات الأحداث الجارية، مع توقفٍ أمام البؤر المشتعلة بجوارهم، في كل من اليمن وسورية والعراق. كما تحدثوا عن تطلُّعاتهم وطموحاتهم الهادفة إلى أن يكون لكل منهم في استقلال عن الآخرين، المكانة التي يختار، من دون أن يَمسَّ ذلك بمقتضيات القوانين الدولية المحدِّدَة للعلاقات بين الأنظمة السياسية في المجال الجغرافي الواحد، أو يمس بمقتضيات التوافق الدولي في عالم متغيِّر. ولم يغفلوا، في غمرة تحليلاتهم، عن إبراز مشروعية التنافس والتعاون فيما بينهم، وكذا تطوير آليات تقوية مجلسهم، للرفع من مردوديته.
كانت اللغة المستعملَة بينهم واضحة، ذلك أن البنيات الثقافية والاجتماعية والسياسية الناظمة لوجودهم التاريخي والرمزي متشابهة، حتى وإن استوعبت عناصر مختلفة أحياناً، أو أظهرت في سياقاتٍ سياسيةٍ محدودة تنوعاً في الآراء والمواقف.. لا سبيل لمزايدة الواحد منهم على الآخر، فروابط المجلس الجامع لتطلعاتهم وأنماط تعاونهم تُعَدُّ خير دليل على أشكال الوحدة الجامعة بينهم. تضاف إلى ذلك مواجهتهم اليوم تحديات واحدة في المجتمع والثقافة والسياسة، وما يرتبط بذلك كله من قضايا تتصل بالثروة والطاقة والمستقبل المشترك.. وإذا كان الجميع يقبل مشروعية التنافس، فإنهم جميعاً يدركون أن للتنافس بينهم حدودا، ذلك أن ميثاق المجلس الجامع بينهم يمنح قوة الواحد منهم ما يعزِّز وجود الجماعة، كما أن التحوُّلات التي تقع هنا وهناك في العالم، لاَ تَمُرُّ من دون أن تترك آثاراً مُحَدَّدة على من يعتقدون بأهميتها، وكذا على من يرفضونها، ذلك أن ما يقع اليوم في أي مكان سرعان ما يصبح معمّماً، الأمر الذي يتطلَّب البحث عن تجاوُز المآزق الناشئة.
خصص اليوم الثاني في الاجتماع الاستثنائي لقادة مجلس التعاون الخليجي لوضع مساطر لتطوير آليات عمله. وإذا كنا نعرف أن المجلس رتَّب قواعد التعاون بكثير من المرونة المستوعبة لسياقات تكونه، فإن مقتضيات التحوُّلات الجارية اليوم في المشرق العربي تدعو القائمين عليه إلى بناء آلياتٍ جديدة، تُواكِب المتغيِّرات الجارية. فقد مضى الزمن الذي كان فيه المجلس يكتفي بلقاءاتٍ موسمية ومناسباتية، ولعل المخاضات الحاصلة في مجتمعات الخليج والمجتمعات المجاوِرة تقضي بضرورة تطوير وتيرة عمله وخططه. إن إيقاع التحوُّلات التي تجري بجوار أقطار مجلس التعاون في اليمن، وفي العراق وسورية، يدعو إلى أن يتخذ المجلس قراراتٍ تؤهله ليكون فاعلاً ومتفاعلاً مع متطلَّبات القِوَى الفعلية في المشرق العربي.
اتخذ الحوار والنقاش بينهم صيغاً غير معهودة، تجاوز المظاهر والمفردات الجارية اليوم، فبدأت أتحرك داخل مقعدي، ثم فتحت عيني مُصَوِّباً نظري نحو زوايا المكان الذي كنت أجلس فيه، في منزلة بين المنزلتين، فإذا بي أستمع إلى خبرٍ يتعلق بالاستفتاء على استقلال إقليم كردستان.. لحظتَها، أدركت أنني استيقظت.
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".