ليبيا.. فرصة الخروج من الحالة الانتقالية

ليبيا.. فرصة الخروج من الحالة الانتقالية

12 أكتوبر 2017

فايز السراج وغسان سلامة في طرابلس (5/8/2017/فرانس برس)

+ الخط -
على الرغم من إحباط مشروع الهيئة التأسيسية للدستور، طرح المبعوث الأممي إلى ليبيا، غسان سلامة، خريطة عمل لإنهاء الفترة الانتقالية، وهو ما يأتي في وقتٍ متزامن مع مواقف دولية ومحلية، تسعى إلى دعم الحل السياسي، غير أن التحديات التي تواجه المحتوى السياسي للاقترابات المختلفة، تكمن في مدى قدرة الأمم المتحدة، أو الأطراف الأخرى، على وضع المشكلة في ليبيا على مسار الحل الدائم، وهنا تبدو أهمية مناقشة تأثير المساهمات الجديدة على الخروج من الحالة الانتقالية.

توجهات دولية انفتاحية
خلال الشهور الماضية، تبلورت التوجهات الإقليمية والدولية نحو زيادة ضمانات الإلزام بمخرجات الحوار السياسي، سواء من خلال تفعيل المادة 52 من الاتفاق السياسي بشأن انتهاء مدة عمل الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور، أو تحفيز الالتزامات المتبادلة بين مجلسي الرئاسة والنواب، كما جاء في الاجتماع الوزاري في نيويورك ( 22 سبتمبر/ أيلول 2017) والمتعلقة بمنح الثقة لحكومة الوفاق، وتعديل الإعلان الدستوري قبل توقيع لجنة الحوار على تعديلات الاتفاق، فهذه الصيغة لم تكن مطروحةً في وقت سابق، لكنها تتوقف على النتائج النهائية للحوار الوطني ومدى تقارب المواقف السياسية تجاه مخرجاته.
تعكس الاتصالات الدولية بشأن ليبيا وجود توجهٍ نحو فتح الحوار مع كل الأطراف الليبية والاعتراف بها ضمن الحل السياسي، فقد شهدت الشهور الماضية كثافةً في التواصل الدولي والإقليمي مع السياسيين الليبيين، شملت روسيا الاتحادية وإيطاليا وفرنسا وكوريا الجنوبية ومصر، بحيث لم يعد خليفة حفتر أو فايز السراج الشخصيتين المحوريتين في الشؤون السياسية، بل ظهر بجوارهما رئيسا مجلس الدولة ومجلس النواب، وهو ما ينقل المشكلة إلى نطاق مربع التفاوض، وليس الحسم العسكري. وفي هذا السياق، جاء اجتماع الكونغو (اجتماع لجنة رفيعة المستوى للاتحاد الأفريقي حول ليبيا 9 سبتمبر/ أيلول 2017) متوافقاً مع المسارات الدولية في دعم مشاركة الأطراف الليبية، وعدم استثناء أي منها.

خطة جديدة للأمم المتحدة
طرح المبعوث الأممي، في مجلس الأمن في 20 سبتمبر/ أيلول 2017، تقييماً للفترات
الانتقالية المتعاقبة سلبياً. لم يحقق الحد الأدنى من الحكم الرشيد أو الاستقرار المعيشي. بعكس ذلك حدث تدهور اقتصادي، والانفلات على القانون والنظام. ولذلك بنى خطته على ضرورة وضع نهاية لعدم القدرة على التنبؤ بمآلات السياسة، بحيث يتم تحييد المؤسسات وتفعيلها، وبخاصة السياسية والأمنية والقضائية والاجتماعية والاقتصادية.
وفي سياق تقليدي، يركّز غسان سلامة، كما ورد في "خطة العمل الجديدة من أجل ليبيا"، على الاتفاق السياسي إطارا وحيدا لإنهاء الأزمة الليبية. هذه النظرة هي استكمال لرؤية الأمم المتحدة للحل السياسي في ليبيا، لكنها تبدو مصحوبةً بتعديل في فلسفة الانتقال السياسي، حيث يسعى إلى إيجاد فواعل أخرين، وإدخالهم نطاق المرحلة الجديدة، وهو ما يمكن اعتباره توسيعاً للمبادرة المصرية، لتشمل أطرافاً لم تشارك في الحوار السياسي، أو كانت مستبعدةً عنه، لتكون طرفاً مكافئاً في مناقشة التعديلات وإقرارها.
فيما أن عنصر الاستمرار يكمن في أنه يأخذ في اعتباره أهمية وجود المؤسسات الدستورية (مجلس النواب والهيئة التأسيسية) أساسا للمرحلة الانتقالية. هنا يكمن التحدّي؛ ليس فقط فيما يتعلق بالدور السلبي لهاتين المؤسستين في المرحلة السابقة، ولكن أيضاً، فيما يرتبط بالقدرة على التخلص من العيوب الهيكلية فيهما، وما يمكن أن تمثله من قيود تعيق الانتقال السياسي، وخصوصا ما يرتبط بانقسامات الكتل النيابية، وتآكل مؤسسية مجلس النواب.
وفيما يتعلق بمشروع الدستور، لم تطرح الأمم المتحدة سياقاً مختلفاً عن تراكمات الفترات الانتقالية، حيث إن التركيز على استمرار "الهيئة التأسيسية"، من دون ضمانات أداء عملها أو حماية مخرجاتها يشكل استمرارا للفجوة ما بين الدولة والمجتمع على مدى النظام الانتقالي، ومن ثم، فإن تمكين "الهيئة" من مراجعة مشروع الدستور لا يلقى ظروفاً مواتيةً في ظل تفكك المؤسسات وانتشار الصراع الاجتماعي، تجعل المراهنة عليها، باعتبارها جهة دستورية، أمراً مليئاً بالمخاطر.
وبشكل عام، لا يكشف مقترح غسان سلامة عن دمج "المسلحين" في العملية السياسية والحياة المدنية عن تغير في منظور معالجة انتشار السلاح، واحتواء الجماعات المسلحة ضمن مظلة الدولة، فهذه الفكرة لم تشهد تقدماً على مدى الحكومات السابقة، ما أدى إلى تزايد الصراع المسلح، فقد غابت الجدية عن برامج أو سياسات جمع السلاح أو إدماج المسلحين، حيث يرجع الإخفاق في الدمج السياسي إلى ظهور الصراع المبكر على الاستحواذ على السلطة والجيش، وغياب تعريف واضح للثوار، يميزهم عن الجماعات الإرهابية.

صيغة أخرى للمؤتمر الوطني
تقوم خطة "البعثة الأممية" على منح مدى زمني، يتم خلاله توسيع قاعدة المشاركين في
المؤتمر الوطني، بحيث يساعد على امتصاص التنافر بين الكيانات التقليدية، ويسمح بدخول فاعلين جدد في المسار السياسي، وهو ما يمكن اعتباره بمثابة إفساح المجال أمام انتشار النخبة السياسية، بحيث لا تقتصر على أطراف الصراع التقليدية، فظهور شخصيات جديدة لم تنخرط في الحرب الأهلية يشكل متغيراً جديداً في تناول الأزمة السياسية، لكنه محاولةٌ قد لا تكون بعيدة عن التشتت أو الصراع لغياب القاطرة الفاعلة لمسار الحوار السياسي، وتناقض الإسناد الخارجي وانشغال الدول الفاعلة بأكثر من مشكلة إقليمية، فضلا عن انقسام مجلس الأمن.
يمكن أن تشكل فكرة المؤتمر الوطني مدخلاً لتقليل التناقضات السياسية، وتفكيك احتكار مجلسي النواب والدولة للشؤون السياسية، حيث تقوم فكرته على إتاحة الفرصة لاحتواء كل الأطراف الليبية ضمن المسار السياسي. يقترح سلامة كمهمة أساسية للمؤتمر الوطني، تتمثل في اختيار أعضاء المؤسسات التنفيذية التي تتم إعادة تشكيلها، وذلك على أساس توافقي. وتسعى هذه الخطة إلى تأسيس جديد أو مختلف للمرحلة الانتقالية، بحيث يعكس أكبر تمثيل ممكن للمكونات السياسية، لكن، في الوقت نفسه، يواجه هذا التصور تحدي وجود سلطة تشريعية قائمة. لذلك، يمكن النظر إلى فكرة المؤتمر الوطني كإشكالية غير واضحة الأساس القانوني، أو في معايير تكوينها أو في علاقتها بالمؤسسات القائمة، وثمّة احتمال بأنها سوف تشكل فجوة في النظام الانتقالي، وخصوصاً في ظل توقع عدم قدسية الجدول الزمني، وتواضع مخرجات الجولة الأولى من الحوار الوطني، فالتحدي الذي تطرحه فكرة "المؤتمر الوطني" تكمن في غموض علاقته القانونية مع المؤسسات القائمة، ما يخلق إطاراً فضفاضاً للعملية السياسية.

اتجاهات لجنة الحوار
تلتقي كل النقاشات على أن المهمة الأساسية للجنة الحوار تتمثل في تعديل الاتفاق السياسي. ووفق رئيس لجنة الحوار الممثلة لمجلس النواب، يتركز الحوار على ثلاثة اتجاهات رئيسية: إعادة هيكلة المجلس الرئاسي، وفصل رئاسة الوزراء عن المجلس الرئاسي، وتوسعة مجلس رئاسة الدولة، وتحديد الموقف تجاه المادة 8 الخاصة بتعيين المناصب العليا، والتي تحولت إلى خلاف حول شغل منصب القائد العام.
ووفق اتجاهات لجنة حوار مجلس النواب، تسعى المناقشات إلى الوفاء بأربعة متطلبات، تتمثل في وجود هياكل حكومية قوية وقادرة على مواجهة الأزمات، وتشكيل جيش وطني ومؤسسة أمنية تبسط سيطرتها على كامل البلاد، وإرساء دعائم مصالحة سياسية شاملة، تستند إلى مشروع الدولة المدنية، ومبدأ التداول السلمي على السلطة، وسن دستور ليبي جديد للبلاد، يمكّن من التنافس على السلطة.
وبشكل عام، استقرت اتجاهات النقاش في تونس، في سبتمبر/ أيلول 2017، على الفصل ما بين المجلس الرئاسي ومجلس الوزراء، غير أن المناقشات في الملفات الأخرى لا تزال في نطاق المشاورات، ومنها كيفية تحديد منصب القائد الأعلى للجيش، وتعد نقطة الفصل بين الجسمين التنفيذيين توجها جديداً، فيما أن فكرة تخفيض عدد مجلس الرئاسة كانت مطروحةً في اجتماعات سابقة للجنة الحوار في بداية 2017. وبهذا المعنى، لم يعد مفهوم تعديل اتفاق الصخيرات واضحاً، ويكتسب تعريفات جديدة مع تفاقم الأزمة السياسية، بما يفتح المجال أمام اتساع اتجاهات التعديل. كانت هناك رغبة في تجنب التصدي للمادة 8 من الملحق الإضافي، فيما كانت أكثر اهتماماً بمناقشة قضايا السلطة التنفيذية (المجلس الرئاسي)، وهي استراتيجية تقوم على تأخير النقاط الخلافية، يمكن أن تساهم في مضي الحوار الوطني نحو معالجة الخلافات بشأن تعديل الاتفاق السياسي.
موقف الاحزاب السياسية
إزاء طرح البعثة الأممية خطة عمل جديدة، كانت مواقف الأحزاب السياسية قلقة من عدم قدرة الأمم المتحدة على التقدم نحو الحل السياسي، والاستمرار من دون تحقيق نتائج. ووفق توصياته المستمرة، أشار "تحالف القوى الوطنية" إلى أهمية تجنب بناء المرحلة الانتقالية على قاعدة
الحصص الجهوية أو الحزبية، بحيث تكون المؤسسات ذات طابع وطني، يقوم على الكفاءة. في تقييم محمود جبريل (صحيفة الشرق الأوسط، 30 سبتمبر/ أيلول 2017) أن إنهاك الصراع الأطراف الليبية، كما بحْثُ "حملة السلاح" عن مخرج، وهو ما يعطي فرصة لتحقيق السلام ووضع حد للمشكلة السياسية، من خلال مشروع وطني تظهر ملامحه في صياغة تعديلات الاتفاق السياسي.
وفيما يتناول "التحالف الوطني" مرتكزات التفاوض بشأن بناء السلام والاستفادة من الفرصة الحالية في تكوين مشروع وطني، يذهب "العدالة والبناء" (مذكرة إلى مبعوث الأمم المتحدة، 30 سبتمبر/ أيلول 2017) إلى أهمية معالجة المشكلات المؤسسية التي تواجه المرحلة الانتقالية، حيث يرى أن المشكلة الأساسية تتمثل في المجموعة المعرقلة للبرلمان والأجسام الموازية والتشكيلات المسلحة وكثرة المبادرات الإقليمية والدولية. هنا يرجح "العدالة والبناء" أولوية الاستفتاء على الدستور أولوية للخروج من المشكلة، على اعتبارين؛ استناد مشروع الدستور لأساس قانوني، حيث حظي بتأييد أعضاء الهيئة التأسيسية بنسب متقاربة بين الشرق والغرب والجنوب بعدد (11 -15- 17) عضواً على الترتيب، ووجود مخاطر لعدم قدرة الهيئة التأسيسية على إجراء التعديلات التي تلبي كل تطلعات المكونات السياسية، ووفق هذه الوجهة، السير نحو الاستفتاء يدعم الاقتراب من إطار دستوري أكثر تماسكاً والخروج من الحلقة المفرغة بين لجنة الحوار والمؤسسات الدستورية القائمة.
اشتباكات صبراتة
تشير الاشتباكات في مدينة صبراتة في غرب ليبيا (سبتمبر/ أيلول 2017) إلى وجود محاولات لهز المسار السياسي، واستمرار طرح الخيار المسلح واحدا من الخيارات السياسية، وتمكن ملاحظة أن اندلاع هذه الاشتباكات وقت التشاور بشأن تعديل الاتفاق السياسي في تونس يعكس النزوع نحو إدامة الحل العسكري، باعتباره واحدا من سياسات إدارة الأزمة.
دخلت الحكومة المؤقتة على خط الاشتباكات في صبراته (بيان 20 سبتمبر/ أيلول 2017)، حيث وصفت خصومها بالمليشيات الإرهابية الإسلامية المسلحة، وهي تتماثل مع مواقفها في الحرب في بنغازي، محاولة لتعزيز الاستقطاب بين المجموعات العسكرية في المنطقة الغربية، وهو ما يشير إلى ارتباط "الكرامة" المباشر بالاشتباكات في مراحلها الأولى، والذي تأكد لاحقاً بتصريحات عسكريين في المنطقة الشرقية.
وقد أشار بيان المجلس الرئاسي ( 6 أكتوبر/ تشرين الثاني 2017) وبلدية صبراتة إلى خضوع المدينة لسيطرة حكومة الوفاق. وعلى الرغم من أن هذه التطورات تدعم الحوار السياسي، فإن تطلعات عملية الكرامة لتمديد سيطرتها إلى الغرب الليبي ومجمع مليتة للغاز يظل من عوامل القلق على الاستقرار وعدم نشوب الاشتباكات مرة أخرى، حيث أن اندلاع الاشتباكات في هذه النقطة الحيوية أرضية ملائمة لانتشار الصراع المسلح في المنطقة الغربية.
تجري الأحداث الراهنة في ظل وضع لم يتوقف فيه تغير النخبة الليبية عند تشكيل لجنة الحوار الوطني بصيغتها الجديدة، لكنه امتد إلى استقالات من البرلمان، ودخول شخصيات أخرى المجال السياسي، وهو ما يمكن اعتباره مؤشراً على تراجع احتكار النخبة السياسية في الكيانات التقليدية، فالزخم المصاحب لظهور عبد الباسط أقطيط يمكن أن يساهم، ضمن عوامل أخرى، في إتاحة الفرص أمام صياغة تنويع النخبة السياسية، وخصوصاً مع تحولاته نحو مخاطبة المجتمع من دون الجهات الرسمية أو النخبة التقليدية. تكمن أهمية التغيرات المتوقعة في مدى انعكاسها على المؤتمر الوطني (وفق خطة الامم المتحدة)، حيث تنضوى تحته الفواعل السياسية.
وبشكل عام، يمكن القول إن تجاوز المناقشات السياسية الاستفتاء هو تعبير كاشف عن ضعف مؤسسات ثورة فبراير، والاقتراب من التمهيد إلى مرحلة أخرى، كما هو انعكاس لتفكك المرحلة الانتقالية الماضية، وبالتالي، فإن الدخول إلى مرحلة انتقالية جديدة، في ظل هيمنة عوامل الفشل على الوضع السياسي، سوف يضعف فرص إنجاز المهام الانتقالية، لكن هذه المعضلة يمكن تناولها في إطار أن غاية التحول السياسي، أو الثورة، يمكن أن تقوم على أسس جديدة تنفي اللجوء إلى العزل السياسي، أو الاستبعاد الاجتماعي والأيديولوجي، ففكرة الثورة ترتبط بالعمل وفق قيم تركز على توسيع المشاركة السياسية والعدالة. من هذه الوجهة، يمكن اعتبار تركز الجدل بشأن مرجعية الاتفاق السياسي بمثابة عدم رضى عن المسارات الانتقالية السابقة. وفي هذه الحالة، يشكل حماية للحد الأدنى لمقومات النظام الدستوري والابتعاد عن الفوضى.
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .