السلاح فخ المصالحة الفلسطينية

السلاح فخ المصالحة الفلسطينية

11 أكتوبر 2017
+ الخط -
طالت حالة الانقسام الفلسطيني كثيرا، ولم تكن مفهومة للفلسطينيين خلال السنوات المنصرمة في واقع فلسطيني يعاني من احتلال في الضفة الغربية، وحصار خانق في قطاع غزة، يحتاج إلى وحدة الجميع، لا إلى انقسامهم. لذلك جاءت المناشدات والدعوات والتمنيات والمطالبات بضرورة من كل الجهات لإنهاء حالة الانقسام الفلسطيني التي تؤثر سلبا على الجميع. وقد جرت بين الطرفين جولات مفاوضات وحوارات في عدة مدن في المنطقة، بين طرفي الصراع الفلسطيني، حركتي فتح وحماس، للوصول إلى إنهاء هذا الانقسام، إلا أن كل الاتفاقات والأوراق الموقعة بين الطرفين كانت تذهب أدراج الريح، وظهرت المصالحة الفلسطينية بوصفها "طبخة بحص" غير قابلة للنضج. وليتبين أن الطرفين لم يكونا جادّين في إنهاء حالة الانقسام، وأن كل ما قاما به خلال السنوات الماضية، هو ملء فراغ الوقت، والمناورة من أجل أن يُحمِّل كل طرف المسؤولية للطرف الآخر. كما أن طول فترة الانقسام أوجد مصالح لفئات عند الطرفين، باتت مصالحها متناقضةً مع المصالحة، وتعمل ضدها طوال الوقت. في سلطة رام الله، التخلص من غزة بوصفها عبئا. وفي سلطة "حماس" في قطاع غزة الحفاظ على الوضع القائم بوصفه إنجازا، على الرغم من كل الوضع الكارثي الذي يعيشه القطاع. .. هل هناك متغير جديد يجعل المصالحة وإنهاء الانقسام بين الطرفين ممكنا؟
الظروف التي جرى فيها الانقسام مختلفة تماماً عن الظروف اليوم، وقد جرت مياه كثيرة في المنطقة، وفي الوضع الفلسطيني، خلال عقد من عمر الانقسام. في هذا الوقت، ضرب زلزال الثورات العربية المنطقة، وأوجد واقعا جديدا، مُدخلا المنطقة في سلسلة من الأزمات المتواصلة، ما جعل الواقع الإقليمي مختلفا تماما عن اللحظة السياسية التي ولد فيها الانقسام.
 وإذا كان هذا الواقع الجديد قد أثر سلبا على القضية الفلسطينية، لانشغال العالم بمآسي المنطقة التي تسبب بها قمع الدكتاتوريات طموحات الشعوب العربية، ما انعكس سياسات تدمير من هذه الدكتاتوريات لبلدانها ومجتمعاتها، كاشفة عن حجم خرابٍ مذهلٍ لهذه المجتمعات، قامت به الدكتاتوريات خلال عقود حكمها الدول العربية.
وفي الوقت الذي تأثرت مكانة القضية الفلسطينية بهذه المتغيرات، لم يتأثر طرفا الانقسام بهذه المتغيرات التي كان يُفترض أن تدفع موضوعياً باتجاه إعادة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني، من أجل مواجهة التحديات التي تفرضها الوقائع الإقليمية المحيطة، والتي جعلت إسرائيل أكثر راحةً في توسعها الاستيطاني في الضفة الغربية لقضم مزيد من الأراضي الفلسطينية، في وقتٍ عزّزت هذه الوقائع من سياسات اليمين الإسرائيلي الحاكم، بعدم الإقدام على أي خطواتٍ باتجاه أي عمليةٍ سلمية، حتى لو كانت شكلية، وباتت كل العملية التفاوضية وراء إسرائيل. بمعنى آخر، لم يتعامل طرفا الصراع الفلسطيني على أساس أن المتغيرات التي تشهدها المنطقة بحاجة إلى تغيرات داخلية فلسطينية، لمواجهة انعكاساتها على القضية الفلسطينية، وبقي الطرفان يتعاملان وكأن شيئا لا يحدث في المحيط، وإذا كان يحدث شيء ما، فهو لا يحتاج إلى تغيير السياسات المتعبة من كل طرف. لذلك استمرت حالة الانقسام قائمة، وكل طرف يسيطر على مكانه.
الجديد الذي غيّر المعادلة أن غزة تحولت إلى عبء على حركة حماس (من وجهة نظر بعضهم في حماس)، لذلك بات التغيير مطلوبا، فأقدمت "حماس" على مجموعة من المبادرات، جعلت المصالحة تبدو ممكنة، فكان حل اللجنة الإدارية، وزيارة رئيس الوزراء رامي الحمدالله قطاع غزة، وبثت هذه الوقائع وغيرها التفاؤل في الوصول إلى حل للانقسام والخروج من عنق الزجاجة الذي علق به الوضع الفلسطيني طويلا. كل هذه الوقائع وغيرها جيدة للمصالحة، لكنها غير كافية، ولن تكون حاسمة لها، فلن يحسم في هذه الوقائع إنهاء الانقسام. إنه سيحسم في 
مكان آخر، في مكانة "السلاح ومرجعيته" وفي من يملك قرار "الحرب والسلم" في قطاع غزة. لسان حال "حماس" يقول: إننا سنقدم التنازلات في كل المواضيع، بدأناها من حل اللجنة الإدارية، ولن تقف عند حدود، سوى عند "سلاح المقاومة" الذي هو خارج النقاش، كما صرح كل قادة الحركة الإسلامية. ..هذا الاستثناء هو العقدة التي ستعمل على تفجير المصالحة. لماذا؟
تكتيك "حماس" في هذا الموضوع واضح جداً، عينها على التجربة اللبنانية، إنها تنظر إلى هذا التجربة بوصفها قابلةً للتنفيذ في قطاع غزة. المقصود بالتجربة اللبنانية ازدواجية السلطة، حيث هناك سلطة دولة تدير الوزارات والدوائر في لبنان، لكن حزب الله هو المتحكّم في الواقع، وعلى الأرض، وفي قرار "الحرب والسلم"، وليس الدولة اللبنانية، بل قوة حزب الله العسكرية، وتحت الذريعة نفسها "سلاح المقاومة" الذي يقع خارج النقاش.
هذا النموذج هو الذي تسعى "حماس" إلى تكراره في قطاع غزة، فقوتها العسكرية اليوم تفوق التي حسمت بها الصراع المسلح مع "فتح" على قطاع غزة قبل عقد، ولا يمكن للسلطة في رام الله القبول بلعب دور السلطة الشكلية في قطاع غزة، في الوقت الذي تسيطر "حماس" فعليا بحكم قوتها العسكرية على قطاع غزة، وتتحكم بقرار "الحرب والسلم". لن تقبل السلطة في رام الله أن تتحمل هي أعباء غزة المالية والسياسية، وتكون سيطرتها هناك شكلية، بينما تتحكم "حماس" بفائض قوتها العسكرية فعليا في القطاع، وهو ما يجعل من سلطة رام الله تغطية شكلية على سلطة "حماس" الفعلية على الأرض. وحتى لو قبلت سلطة رام الله هذه المعادلة، لن تقبل بها أطراف أخرى مؤثرة تأثيراً حاسما في الوضع الفلسطيني.
يتمنى الجميع نجاح المصالحة، وأنا منهم، ولا أريد أن أكون ضد التيار المتفائل، لكني أعتقد أن الصيغة اللبنانية غير قابلة للتطبيق في غزة، هذا من جانب. ومن جانب آخر، طالما هناك مواضيع خارج النقاش، خصوصاً السلاح الذي حسم الصراع قبل عقد، فإن المصالحة تبقى مفخّخة. والنيات وحدها لا تكفي، هذا إذا اقترضنا حسن النيات أصلا، وكما تقول الحكمة القديمة "طريق جهنم مبلط بالنيات الحسنة".
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.