الدستور الروسي... في أستانة

الدستور الروسي... في أستانة

31 يناير 2017
+ الخط -
أتاح التقارب الروسي التركي، والابتعاد الأميركي، فرصةً للبحث عن حل جدي للمأساة السورية، تحت عناوين سياسية متنوعة. وقد جرى لقاء أستانة بناءً على هذا التقارب، وضمن عملية البحث عن الحلول.
هي المرة الأولى، منذ بداية الصراع، تشهد فيها قاعةٌ واحدة، لقاءَ أطراف الحرب السورية بشكل يتيح تبادل الاتهامات والإدانات، وربما الشتائم، وقد يكون اجتماعٌ من هذا النوع مفيداً جداً في ظل الإصرار الدولي على الحل السياسي، وإبقاء الوضع العسكري معلقاً من دون حسم، على الرغم من التدخلات الإيرانية والروسية. ومن المفيد أن يُذكر أن هذا التقارب يساعد في تخصيب حل سياسي، قد لا يناسب أحد الأطراف، لأن الحل السياسي، بالمفهوم الذي يطرحه المجتمع الدولي، يعني أن تتم القسمة على اثنين، بحيث يستطيع كل طرفٍ أن يعتبر نفسه فائزاً، ويمكن أن يعتبر خصمه مهزوماً في الوقت نفسه. قد ينفع هذا الحل في توقيف المعارك أو فرملتها، ولكنه لن يكون مفيداً على المدى الأطول، وخصوصاً أن دوام الوفاق الروسي التركي مرهونٌ برضى أميركي، والأميركي تحول الآن إلى حالة مزاجية متقلبة الأهواء.
تطوع الجانب الروسي، بوصفه أحد الرعاة، بتقديم مسودة دستور لسورية، وقال إن خبراءه أعدّوها بوحيٍ من أفكار طرحها كل من النظام والمعارضة، وبعض القوى الإقليمية، وطلب من الأطراف قراءته والتعليق عليه.
وزِّعت نسخ من هذا الدستور على الوفود المشاركة، وعلى شخصيات وطنية متنوعة، لكن المعارضة المسلحة، بحسب الناطق باسمها، رفضت استلام أي نسخة، وأكد الرفض أحد الحقوقيين المرافقين، وقد طرح مثالاً معقولاً، وهو أن الدستور الذي صاغه بول بريمر، المندوب السامي لقوات الاحتلال الأميركية للعراق، لم يفلح في توحيد العراقيين، بل ساهم في إيجاد أقاليم عراقية شبه منفصلة، لذلك من المفيد أن يكون الدستور ذا منشأ محلي، يعي متطلبات المعنيين به بالدرجة الأولى. ولكن بعض من دعاهم وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى اجتماع موسكو عقب مؤتمر أستانة، قبلوا استلامه، وربما باشروا في دراسته، وهي خطوة تخلّ بنزاهة الجانب الروسي الذي يرغب في رؤية عدة معارضات، ويوسِّع طيفها، العريض أصلاً، ليتمكن من محاصرة المسلحة منها، والتركيز على فئة محدّدة تقوم بتفصيل الحل السياسي على قياسها، على الرغم من أن اجتماع أستانة لم يكن مخصصاً لعرض أية دساتير، وكانت خططه محصورة ببحث تثبيت وقف إطلاق النار والاتفاق على آليات التأكّد منه.
يشكل الدستور الطبقة الحقوقية الأولى في بنية الدولة، ويمكن اعتباره الرداء السياسي الأساسي في الوقت نفسه، وأهميته في أنه يحدّد الخطوط الرئيسية في علاقات المجموعات المجتمعية والسياسية. وفي كتلةٍ سكانيةٍ شديدة التنوع، مثل سورية، ذات خبرة سياسية شبه معدومة، نتيجة عهود الاستبداد الطويلة، وتجاهل قطاعات عرقية وسياسة كبيرة، منذ فترة ما بعد الاستقلال، فإن صياغة الدستور يجب أن تتم بطريقةٍ محليةٍ، وتشارك بها المجموعات السكانية العرقية والسياسية نفسها التي همشتها عهود القمع، وتخريجات روسية كالمسودة المقدَّمة، بلغة عربية ركيكة، لا تلبي الطموحات السورية، وتضع العربة قبل الحصان، وتقفز فوق أوضاعٍ ملحة تتطلب إعادة النظر، أحدها الوجود الروسي نفسه في سورية، وطريقة التعاطي معه حالياً ومستقبلاً، والوجود الإيراني، بكل نكهاته العسكرية والأمنية والطائفية، وقبل ذلك كله، أوضاع الحصار والتهجير والجبهات المشتعلة، لكن الروس تجاوزوا المُلحّ والآنيّ لصالح ما يمكن تأجيله.
وفي مثل هذا الواقع، نجد أنفسنا مضطرين لنوافق محمد علوش، كبير المفاوضين، في رفضه استلام أية مسودة لأي دستور، لأن وقف النار وتثبيته، والتأكد من آلياته، يجب أن يسبقا أي خطوة، ولا يمكن الانتقال إلى التالي، قبل أن يصبح التوقف عن إطلاق النار حالة عامة وسائدة. ولعبةٌ سياسيةٌ، مثل عرض مسودة دستور، تشبه وضع طبقٍ عامر بالمأكولات الدسمة لشخص مصابٍ بالجفاف، وبحاجة إلى جرعات خفيفة من الماء والفيتامينات، قبل الولوج في الدسم.