المغرب.. النقاب وتحوّلات الحقل الديني

المغرب.. النقاب وتحوّلات الحقل الديني

30 يناير 2017

مغربية منقبة في الرباط (17/1/2016/فرانس برس)

+ الخط -
أعلنت الداخلية المغربية، أخيراً، منع إنتاج النقاب وبيعه، في قرار أثار موجةً من الجدل والنقاش العمومي. وفيما رحب بعضهم به، على اعتبار أن لا علاقة تربط بين النقاب والدين الإسلامي، وأن ارتداءه يسهم في زرع بذور الانقسام والتوتر والاحتقان داخل المجتمع المغربي، المعروف بوسطيته واعتداليته، أصدرت اللجنةُ المشتركةُ للدفاع عن المعتقلين الإسلاميين، والتي ينشط فيها السلفيون، بياناً شددت فيه على ''شرعية النقاب باعتباره حجاباً للمرأة المسلمة، ما يفيد بأن هناك إجماعاً مطلقاً على مشروعيته، كشعيرة من شعائر الإسلام''، ورأت في القرار ''مجانبةً للصواب ومخالفة للشرع والقانون وحقوق الإنسان''.
يصعب وضع القرار في سياق تحليلي واحد، من دون استدعاء جملة عوامل، يتداخل فيها ما هو داخلي بحت بما هو إقليمي ودولي. إنه يعكس سعيَ السلطة إلى تعزيز هيمنتها على الحقل الديني، بمختلف مخرجاته الرمزية والسياسية، وضمان اشتغاله وفق قواعد اللعبة التي على الفاعلين المعنيين قبولها والتحرك ضمن حدودها، من دون اجتهاداتٍ متطرّفةٍ، يمكن أن تعيق السير العادي لهذا الحقل، من دون نسيان أن المشروعيةَ الدينية للملكية المغربية على صلة بنيوية بهذا الحقل، ما يعني انشغال السلطة الدائم بالإشراف عليه وتدبيره، والتدخل لإعادة إنتاجه كلما دعت الضرورة، خصوصاً فيما له شأن بإدارة الانقسامات الفكرية والإيديولوجية والقيمية التي يعرفها المجتمع.
ومع تعدّد الفاعلين، ووفرة الخطابات، وتزايد الإقبال على مختلف أشكال التديّن، وتعاظم التطرف الديني، ودخول وسائل التواصل الحديثة على الخط، أصبحت السلطة أمام تحديات بالغة، بخصوص تحولات هذا الحقل. وضعٌ تشترك في إنتاجه البيئتان، الداخلية والخارجية، على حد سواء، ويتغذّى على أزمة مجتمعية مستفحلة، تمس مختلف مناحي الحياة، وتتضاعف تشعباتها في ضوء اشتباك ذلك كله مع قضايا الهوية والأمن والإرهاب في دوائرها الإقليمية والدولية، وخصوصاً بعد تصاعد أعمال العنف في العالم، على خلفية ما يحدث في المنطقة العربية.
أصبحت السياسةُ الدينية التي تنهجها السلطة في المغرب محكومةً باستراتيجية تؤالف بين الإشراف السياسي الكامل على الحقل الديني ورصد مستجداته والأخذ بالاعتبار الأجندات الإقليمية والدولية ذات الصلة بقضايا الأمن ومكافحة العنف والإرهاب، من خلال انخراط متنام في أولوياتها.

ولم تعد مسألة النقاب مجرد جزئيةٍ تخصّ حرية النساء في اختيار طريقة لباسهن، بل باتت جزءاً من متخيل ديني مضاد، ينتج خطابه الجهادي المُعولم، العابر للبلدان والحدود والسياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية، ويدفع به نحو الجدليات الكبرى للصراع الإقليمي والدولي في المنطقة. متخيلٌ يُكفر الأنظمةَ والمجتمعات والأفراد، ضمن ثنائياتٍ وثوقيةٍ لا مكان فيها لمنطقةٍ وسطى، تفرضها ضرورات العصر والتعايش مع الآخر، ثنائيات مغلقةٌ بإحكام: الحق في مواجهة الباطل، دار الإسلام في مواجهة دار الكفر، المرأة المنقبة في مواجهة السافرة.
أصبح هذا المتخيّل قادراً على فرض علاقات سلطةٍ جديدةٍ، تتغذّى على تنامي الجهادية الدولية وامتداداتها الفكرية والسياسية والتنظيمية، وإخفاق السلطة في تدبير التحولات السوسيولوجية التي عرفها المجتمع المغربي إبّان العقود الثلاثة الأخيرة، والتي مسّت، بشكل كبير، أنماط التفكير والوعي والسلوك وبنية العلاقات الاجتماعية، وَتَركُّزِ هذه التحولات، بشكل كبير، في المدن والحواضر الكبرى التي تنتظم حولها معادلات الصراع الاجتماعي والسياسي، وتزايدِ حدة الاستقطابات القيمية والثقافية والهوياتية.
تكشف هذه الاستقطابات انتهازيةً سياسيةً واضحةً داخل التيارات السلفية والمتشدّدة إزاء قضايا الحقوق والحريات، فالخطاب الكوني لحقوق الإنسان لا يقبل الانتقائية المعيارية، وهذه التيارات ترفضه بشكل قاطع، بسبب منطلقاته الفكرية والفلسفية التي تتعارض، حسب رؤيتها، مع تعاليم الدين الإسلامي. لكنها، في الوقت نفسه، لا تدخر جهداً لتحويل مخرجاته إلى مصدر قوة في سجالاتها ومعاركها الفكرية والسياسية، وذلك حين يتعلق الأمر ببعض هذه الحقوق والحريات، لا كُلها، فهي لا تتردّد في استدعاء كونية حقوق الإنسان والاستقواء بها، حين تكون مستهدفةً، سواء من السلطة أو من خصومها الليبراليين والعلمانيين.
يبدو ذلك واضحاً في احتجاج اللجنة السالف الذكر على قرار السلطة منع تسويق النقاب، فهي تطالب بـ ''وقف سياسة الكيل بمكيالين ومعاملة شريحة من المغاربة كمواطنين من الدرجة الثانية''، قبل أن تتساءل ''بأي حقّ تتجاوز وزارة الداخلية صلاحياتها مصادِرةً صلاحيات المؤسسات المختصة، ومنقلبةً على الدستور لتميز بين المغاربة بناء على المعتقد''. يبدو تناقضاً صارخاً أن يستدعي بيان السلفيين مواردَ تنتمي لحقل الحداثة السياسية، من قبيل المواطنة، وسلطة المؤسسات، والدستور، والتمييز بناء على المعتقد، فيما هو يقف على أرضيةٍ فكريةٍ تعادي هذه الموارد وتكفرها. لا يعكس ذلك فقط تناقض الخطاب وضحالته، بقدر ما يعكس أزمةً مجتمعيةً عميقة، وتخبطاً على مختلف واجهات الوعي والفكر والممارسة، وعجزَ مجتمعاتنا عن فهم الواقع واستيعابه في تَعرُّجاته المختلفة.
في المجتمعات التي قطعت أشواطاً على درب الديمقراطية الحقّة، لا تعبث السلطة بهذه الاستقطابات، بل تحاول تقليصها والحد منها بإشاعة قيم الحوار والاختلاف وقبول الآخر، بغاية الوصول إلى أرضيةٍ مشتركةٍ تتعايش عليها كل القراءات والمواقف والاجتهادات. لكن هذه الاستقطابات تمثل في مجتمعاتنا العربية التي فقدت بوصلتها فرصة سانحة للنخب الحاكمة للعب على تناقضات القوى الاجتماعية والسياسية، من خلال تدبيرها بشكل متوازن ودقيق يسمح لها، في النهاية، بحماية سلطتها ومصالحها وتحالفاتها، وبالتالي، تأجيل ورش الإصلاح السياسي والاجتماعي الحقيقي.