"يناير".. ذكرى وذاكرة

"يناير".. ذكرى وذاكرة

28 يناير 2017
+ الخط -
في كل مرة، وفي الذكرى السادسة لثورة مصر، نؤكد أن هذه الثورة مستمرة، حتى حينما ينكر المنقلب، الذي يشكل رأس حربة الثورة المضادة، هذه الثورة، فيتكلم عن أحداث وقعت في عام 2011 على نحو مجهل، يحاول فيه أن يطمس وصف الثورة وفعل الثورة، يتحدّث عن ذلك في احتفال لعيد الشرطة، يصف هذه الأحداث بأنها حاولت صنع الفتنة ما بين الشعب والجيش من ناحية، وما بين الشعب والشرطة من ناحية أخرى، هكذا يقول، وقد قال من قبل إن هذه الأحداث أدت إلى حالة سيولةٍ في الدولة، لا يمكن قبولها، ولا يمكن السكوت عليها. ثم يأتي في اليوم التالي، ليتحدث عن ثورة 25 يناير بكلامٍ، هو في حقيقة الأمر بالنسبة له، منمق يردّده في خطاب مكتوب، مصطنع، من غير جمهور، هذا خطاب مغيب يخاطب فيه الشعب الغائب، ويقول فيه فائض كلام هو من نصيب الثورة، وذاك خطاب بجمهور احتفالا بعيد الشرطة يتسم، في عمومه، بالوصف الكاذب والتدليس على الثورة، هو في خطابه المرتجل هذا، يعبر فيه عن مكنون نفسه، ويطمس فيه معنى الثورة، تاريخا وحدثا.
ماذا يعني ذلك، إلا أن يكون هذا الخطاب من نوع الخطاب المخاتل الخادع. وهذا الكلام المراوغ المتحايل، إنما يشكل، في حقيقة الأمر، ورطة المنقلب، حينما يتحدث عن ثورة 25 يناير بنَفَسَيْن، نَفَس الذي يمرّر حدث الثورة بفائض كلام، ونَفَس يطمس الحدث، ويحاول أن يربطه بنتائج سلبية وبكل نقيصة. يعني هذا الخطاب المخاتل أن المنقلب الذي يلبس زوراً ثوب ثورةٍ يتحدث عن غطاء شعبي كاذب، وعن حالة اصطناع، أما الحدث الذي قامت به الجماهير على الحقيقة، وصنعته على أعينها، وقرّرت فيه أن تسقط النظام بهتافٍ مدو "الشعب يريد إسقاط النظام"، إنما كان يعني هذا الحدث الذي يمر من غير إرادة من المنقلب، وصحبه من العسكر وسدنتهم.
كان هذا يعني الكثير له، هذا الحدث يواجه في الظاهر بمعسول كلامٍ وفائض أقوال وكلام
 زائف وقول مزور. وفي الوقت نفسه، يطعن الثورة من الخلف بكلام فاحشٍ وأوصاف فادحة، كلها تربط هذه الثورة بالفوضى، أو بأنها استهدفت الدولة، استهدفت مؤسساتها من جيش وشرطة، هكذا أراد المنقلب أن يرسم هذه الصورة بخطابه الذي يبدو، في الظاهر، أنه خطابٌ متناقض، وهو، في حقيقة الأمر، "خطاب غادر"، يغدر بالثورة، فيصطنع من زخرف القول ليمرّر أقبح أوصافٍ لأفضل حدث في تاريخ مصر الحديث والمعاصر، لعبة يجيدها ذلك المخابراتي، وخداع يسميه في عرفه خداعاً استراتيجياً، أجاده المنقلب، ليمرّر غصبه، ويبرر انقلابه، هذا هو التحليل الذي يوضح أن لا تناقض في الخطاب، هكذا الغادر يقول قولاً زائفاً، ويفعل فعلا قاتلا.
الغادر تطارده غدرته، وهو يقود حملة لطمس ذاكرة الثورة. أرأيت إعلام إفكه يقوم بطمس أحداث الثورة في أرشيفات صحفه، ويحاول أن يطمس كل فعل رمزي للثورة، فلا تجد له أثرا. أتعلم أن صفحة المجلس العسكري مثلا التي اشتملت على بيان المجلس العسكري في بداية الثورة تأييدا وترحيبا، وطوال فترة حكم المجلس العسكري التي احتوت اعتذارا وتبريرا و"رصيدنا يسمح" قد طمست واختفت، ماذا يعني ذلك؟ هل نعيش على ذكرى وتغتال الذاكرة؟
نعم، إنها خطة استراتيجية لقتل الذاكرة مع سبق إصرار وترصد، وعمل وصياغة وصناعة سردية أخرى لثورة يناير التي قالوا عنها "أحداثا"، ولعظمة هذه الثورة التي قلبوها إلى مثالب ونقائص، قاموا بتشويه كل شيء، شوهوا رموز الثورة واتهموهم بالعمالة والتخابر والخيانة، وما خانوا!، لكن الخونة من باعوا الأرض، وعملوا عملاء لعدو يعرف الجميع أنه العدو، إنه الكيان الصهيوني، ويتهم المقاومة بالإرهاب، وذلك كله إنما كان فعل ذلك المنقلب، مزيف الصورة وطامس الحقيقة ومروج سرديةٍ عبثية زائفة، كاذبة خاطئة.
هل شاهدت ميدان التحرير في يوم الخامس والعشرين من العام 2017، سنجد هؤلاء الذين
نشلوا الميدان واستولوا عليه، هذا الميدان الذي كان رمزاً للثورة، وتحيط به الآليات العسكرية فتمنع الداخل والخارج، تمرّر حفنة من البشر من كومبارس السينما، ليهتفوا للسيسي، ويرفعوا شعارات "تحيا مصر"، فيكف تحيا وهم يحملون البيادة على رؤوسهم، ويزيفون الأمور، يعدّون بالعشرات، وقد صار لهم الميدان، بعدما منع عن الثوار، ومنح كساحة احتفال لهؤلاء المزورين من الكومبارسات، فلتتصفح الوجوه، لترى أنهم مشاركون في كل مشهدٍ من مشاهد التزوير. إنهم لصوص الميدان يحتلونه، يطمسون رمزيته، يحاولون استبدال أصحاب الميدان بحفنةٍ مزورة وشعارات خاوية زائفة، مهمتهم.. يزيفون الميدان ويشوهون الثورة.
نحن، إذا، لسنا أمام معركة ذكرى، يحاول هؤلاء أن يجعلوها مرة أخرى عيداً للشرطة، يقوم هذا الجهاز ببلطجةٍ لا نظير لها على أهل الوطن، يقتلون الناس، ويستطيلون عليهم بالسلاح، ويخطفون البشر، ويصفّونهم جسديا أو يخفونهم قسرياً، ويفعلون ذلك، بعد أن أمّنَهم كبير انقلابهم من العقوبة، قائلا لهم افعلوا ما شئتم، فلا عقاب ولا حساب، اقتلوا واختطفوا وصفّوا جسديا واخفوا قسريا، واعتقلوا وطاردوا، وافعلوا كل شيء، اقتلوا النفوس بغير حق، وامتهنوا الكرامة من كل طريق، فلا حساب ولا مساءلة ولا عقاب.
يصطنع المنقلب خطابا يتحدّث فيه عن الثورة، ويصفها بالفتنة، ويشكر الشرطة على جرائمها من قتل وبطش وتصفية وإخفاء قسري ويحييهم على تفزيعهم سائر المواطنين، ويقول عنهم إنهم قاموا بكل الواجب، نعم قاموا بواجبهم حيال منقلبٍ وحماية كرسيه، وصاروا أدواتٍ لطغيانه وبطشه، يحييهم المنقلب المستبد الفاشي الفاشل، ويجعل منهم بكل جبروتهم وطغيانهم موضع الاحتفال.
إنها المعركة التي تستبدل احتفالاً بعمل ثوري "يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير"، يقتلون النفس ويطمسون الذاكرة. يا سادة، إنها لم تعد ذكرى، إنها ذاكرة تدور حولها المعارك، وجب على كل أحد أن يدخل لتلك المعركة بكل أسلحة الوعي، ليؤكد أن هذه الأيام التي تتعلق بهذه الثورة هي أمجد أيام مرّت بمصر في تاريخها الحديث والمعاصر، وتؤكد أن أهداف هذه الثورة، في شعارها العبقري، لازالت تصدح وتصرخ بالمطالبة والمجاهرة بكل أهدافها في العيش الكريم، والحرية الأساسية، والكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، إنها ثورة كسرت أول حلقات الاستبداد والطغيان، حينما أزاحت المخلوع في مشهدٍ مهيبٍ، يعبر عن إرادة الشعوب، ويؤكد أن الشعب قادرٌ على أن يحقق أهدافه، ويهزم المستبد.
أتدرون لماذا هي معركة مهمة؟ أتدرون لماذا الثورة المضادة تجعلها أم المعارك بالنسبة لها؟ لأنها أرادت أن تطمس الحدث، حتى لا يتكرّر، وتشوهه حتى لا يقدر، هذا هو الأمر الذي يتعلق بوعي الذاكرة وذاكرة الوعي التي تعبر عن حدث جللٍ يفتح الباب لتغيير جذري، ولكن زبانية الثورة المضادّة أرادوا لهذا الحدث أن يختفي من الذاكرة ويتوارى، ولكن هذا الأمر في معركة الوعي والذاكرة يعني لهذا الشعب ولثورة مصر الكثير، ويؤكد أن خوض هذه المعركة من أهل الثورة هو أول الضرورات التي ترتبط بحمايتها، وهي علامةُ على طريق استعادتها، واسترداد أهدافها وبناء دولة يناير، لتحقيق بناء "مصر الجديدة"، مصر المستقبل. لا تهوّنوا من هذه المعركة، لأنها بداية الطريق لثورةٍ لم تكتمل، وعلى الطريق لاستئناف ثورة، والثورة مستمرة.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".