ترامب والسيسي... إعلام المساءلة وإعلام الصَّدى

ترامب والسيسي... إعلام المساءلة وإعلام الصَّدى

23 يناير 2017
+ الخط -
تحتدم المعركة بين الإعلام الأميركي والرئيس دونالد ترامب، في دلالة أوليَّة على مدى الثقة والنِّديَّة التي يتمتَّع بهما الإعلام والإعلاميُّون في الولايات المتحدة، في مقابل إسفافٍ غير مسبوق للإعلام الرسمي والتابع في عهد الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي. بالطبع، لا يحقّ لنا أن نعقد مقارنة بين دولةٍ كأميركا التي ترسَّخت فيها حريةُ الإعلام والرأي والدول العربية، إجمالا، حيث الإعلامُ يحتاج دوماً إلى توجيهات الحاكم، كما فعل السيسي، حين خاطب أجهزة إعلامية بقوله "ميصحِّش كده..المرَّة الجاية هشتكيكم للشعب"، في توجيهٍ علنيٍّ لوسائل الإعلام والإعلاميِّين، بل في توبيخٍ صريح لها، على جهلها، أو جهالتها في مراعاة المصالح القوميَّة لمصر، فيما هو القيّم الوحيد عليها، والمخلص الدائم لها، من دون حاجة إلى المساءلة، أو الانتقاد.
وهكذا ضاق صدر الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، بالصحافة والإعلام، في بلده، ولم ينجح في التواصل معهم؛ مستذكرا وقوف أكثريَّتها مع منافسته، هيلاري كلينتون، وكأنَّ العقليَّة التي تحكمه لم تتغيَّر، ولم ترتقِ إلى عقليَّة الرئيس الذي يستوعب الاختلافات، ويتقبّل الانتقادات، ويُحسِن المحاورة، لكنه انساق إلى الشتائم، فقد وصف موقع بازفيد الإلكتروني بأنه "كومة من القمامة"، وأسكت مراسل شبكة "سي إن إن" ورفض الإجابة على سؤاله، ويعتزم
نقل غرفة الصحفيِّين من البيت الأبيض؛ لإبعادهم عن مكان صنع القرارات. وفي اليوم الثاني لتوليه الرئاسة، أعلن في مبنى الاستخبارات أنه في حرب مفتوحة مع الإعلام.
الإعلام الأميركي، بغضِّ النظر عن مدى صدقيَّته الحقيقيَّة، محكومٌ إلى قدر من الصدقيَّة والموضوعية، تتناسب مع المستوى الذي راكمه، ويتناسب، مِن قبل، مع مستوى الوعي الذي بلغتْه الأوساطُ السياسية والثقافية، بصفةٍ عامة، فحتى التزييف لا ينجح، إذا كان دون مستوى الوعي المتكوّن. وهو إعلامٌ يستند إلى إرثٍ تاريخيٍّ متواصل، يحفظ له مكانتَه المستقلة، وقدرته على التدقيق والشفافيَّة.
بالطبع قد تكون المقارنة أقرب واقعياً، إذا كانت ليس بين إعلام أميركا وإعلام السيسي، ولكن بين إعلام الأخير وإعلام الرئيس المخلوع حسني مبارك، حيث كانت وسائل الإعلام المصريَّة لا تخلو يوماً من انتقادات صريحة، وإن كانت ضمن خطوط حُمْر، أو تحت سقفٍ لم ينخفض، في الحقيقة، إلى المستوى الذي انخفض إليه سقفُ السيسي، وهو القادم من المؤسَّسة العسكرية، متَّجهٌ بالإعلام نحو مزيدٍ من الإخضاع، والأَداتيَّة، كما يُظهِر إعلانُ شركة شيري ميديا المصرية، التابعة لجهاز الاستخبارات العامَّة، استلامَها، رسميًّا، إدارة شبكة قنوات "العاصمة". هنا يتجاوز نظامُ السيسي، حتى التلفزيون الحكومي، المُفترَض أنه إعلام الدولة المصرية، والشعب المصري، لا الإعلام المتماهي مع رئيس الدولة، المُعرَّض للمساءلة؛ لتُصنَع هذه القنواتُ العتيدة على عينٍ بصيرة، وليس كما التلفزيون المصري الذي لم يشهد السيسي، قبْلا، أو لم يتأكد من فحص كلِّ عامل فيه، في إشارة إلى مقدار الهوَس، من ناحية، وإلى مدى الرغبة في السيطرة والمركزيَّة في سياسته الإعلاميَّة. أمّا في عهد الرئيس محمد مرسي الذي لم يطُل، حتى انقلب عليه السيسي، فقد وصل إعلاميون في انطلاقهم وانتقاداتهم إلى حدود الإسفاف والتجريح الشخصي.
وبالعودة إلى المقارنة بين ترامب والسيسي، لا تخطئ العين التقاطعات، إذ يجمع الاثنين تشكيكٌ في شرعيَّتهما، وطريقةٌ في ممارسة الحكم، كما بشّرت بوادرُ ترامب، (وسنواتُ السيسي) بأنها تقوم على قدرٍ من الارتجاليَّة والفوضويَّة، فضلاً عن استبعاد الفئات الأقلّ حظًّا والهامشيَّة؛ زيادةً في تهميشها، بالتعويل والاستناد إلى خطابٍ شوفينيٍّ متعالٍ وإقصائي، ظهر، مثلا، في تشكيك إعلاميِّين موالين للسيسي بمصريَّة المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين، كما ظهر في ازدراء عموم المصريين على لسان إعلاميِّين وكتّاب موالين، لم يقبلوا حتى بالجنوح إلى التنفيس عن الناس، أو تحييدهم.
وإذا كان في الوسع متابعة تفاعلات الصدام الذي بدأ، وتصاعد بين ترامب والإعلام الأميركي، فإننا (للأسف) لا نجد أنفسنا منجذبين إلى متابعة تلك السلّة الإعلامية التي انحازت إلى السيسي، على طول الخطّ، انحيازاً نفعيًّا ضيّقا، أو انحيازا كيديًّا متحامِلاً وصارِفا عن الموضوعية؛ باستحضار تلك الوسائل الموتورة لهاجس الإخوان المسلمين. من الأمثلة ما قاله أحد المذيعين المؤيدين لنظام السيسي، تعليقاً على أزمة الدولار: "السيسي قعد مع محافظ البنك المركزي، ساعتين زمن، مفيش غيرهم والمجموعة الاقتصادية بالحكومة. الدولار- بقدرة قادر- نزل من 13 جنيه إلى عشر جنيه ونص، اشي خيالي يا ناس، ده لسا السيسي ما دخلش بثقله. السيسي حمَّر لهم عينه بس... أمَّال لو هو اللي واجه أزمة الدولار بنفسه احتمال يبقى الجنيه بعشر دولار. احتمال ما فيش حاجة كبيرة على ربنا...". ونلحظ، بعدَ الاستخفافَ، التلاعبَ بالعاطفة، في مسألةٍ أبعد ما تكون عن مجرَّد العاطفة، سواء عاطفة الأبويَّة للحاكم أو العاطفة الدينيَّة. أما كمّ الاستخفاف والمبالغة في تعليقه، فقد يصل إلى حدَّ إثارة الشكّ لدى السيسي
نفسه: هل هذا الكلام مؤشِّرُ ثقةٍ ثقيلة ومطلقة، أم إنه ينطوي على سخرية مُبطَّنة موجعة؟
وكتبت كاتبة أخرى مقالا بعنوان "السيسي ..الرئيس الصحّ للشعب الغلط"، تعليقا منها على احتجاج المصريين، وتذمُّرهم من غلاء السُّكَر غلاءً كبيراً. فيما يُذكِّر بمسرحية "الزعيم" التي دعا فيها عادل إمام أن يُميت الله الشعوب كلَّها، حتى يصحو الرؤساء، فلا يجدون أحداً يحكمونه. في اختلاط مأساويٍّ بين تراجيديا الواقع وملهاة الفن، وفي استباقٍ مسرحيٍّ لم تجد قريحةُ تلك الكاتبة نفسَها قادرةً على تجاوزه، لكنها جادَّة، فيما يبدو (!).
هذه المقتطفات، تمثيلا، لا حصرا، فادحةُ الدلالة على تيَّار إعلاميٍّ عريض يستكثر على الشعب مطالبتَه بحقوقه الأساسية، أو يعظِّم فوقه حاكماً خياليَّ القدرات، في استهانةٍ بوعي العقل الجمعي المصري، وتكذيباً للحسّ المباشر المتوجِّع من تلك الأزمات المتلاحقة والمتعمِّقة، لكن لقاءاتٍ عفويةً كانت سرعان ما تكشف عن وعي مصري دقيق، وانتماء حقيقي، كشفت عنه مثلاً صرخةُ سائق التّوك توك، قبل فترة.
فمهما تفنَّنت وسائلُ الإعلام التابعة للرئيس، ومهما جنحت إلى الانتقائيَّة والحَجب، فإن الواقع المَعيش، ولا سيما حين تكون مظاهرُه السلبيَّة صارخةً، يجعلها تقفز عن تلك التزويقات الإعلاميَّة، وتتجاوز محاولات الهيمنة؛ ليؤوب المواطنُ إلى ما يحسّه ويعانيه؛ فكان الأجدر أن يكون الواقع، قبل الصورة المُشكَّلة، هو السَّند الحقيقي، والمحامي غير المدفوع عن السياسات والساسة. كتب باسكال بونيفاس، أحد أبرز المحلِّلين الإستراتيجيِّين الفرنسيِّين، في كتابه "المثقفون المزيَّفون" إن "الشعوب أصبحت تُسمِع صوتَها، ولم تعد القضايا الدبلوماسية حكراً على دوائر ضيِّقة ونُخبويَّة. أصبح الرأي العام، وكَسْبُ هذا الرأي العام، وعدم معارضته رهاناً وطنياً ودولياً، على السواء،...والعولمة ووسائل الاتصال، زادت من أهميَّته. ظهر ذلك، بشدَّة، في ثورتي تونس ومصر. لكن، لهذه الميدالية وجهها الآخر: إنه الصعود الموازي لعمليَّة التضليل الإعلامي".