الأردن في مواجهة الإرهاب والتطرّف... اختلالات هيكلية

الأردن في مواجهة الإرهاب والتطرّف... اختلالات هيكلية

22 يناير 2017

تضامن في عمّان مع ضحايا اعتداء الكرك (23/12/2016/فرانس برس)

+ الخط -
لعدة سنوات سابقة، "نام" الأردنيون على "حرير" الاعتقاد بأن مصدر التهديد الإرهابي لبلدهم هو من خارجه، أي من دول الجوار، وخصوصاً أن آلاف المتشدّدين الأردنيين اختاروا، أخيراً، الالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية في سورية والعراق، أو بجبهة النصرة أو غيرهما من التنظيمات التي احتلت مساحات من أراضي البلدين الجارين. وقد شجع على استمرار هذا الاعتقاد نجاح الأجهزة العسكرية والأمنية، في السنوات الماضية، في احتواء التهديدات الإرهابية الخارجية، أو استباقها قبل وقوعها في الأراضي الأردنية.
ومع أن تنظيم القاعدة نجح، في عام 2005، في تحقيق اختراق أمني كبير، تمثل في مهاجمة فنادق في العاصمة عمان، ما أوقع 57 شهيداً وعشرات الجرحى من المدنيين والأجانب، إلا أن السنوات التالية شهدت نجاحاتٍ مرموقة للأجهزة الاستخباراتية والأمنية في استهداف مصادر التهديدات الإرهابية خارج الأردن، بما في ذلك تحديد مقر زعيم تنظيم القاعدة في العراق، أبو مصعب الزرقاوي، واغتياله.
غير أن ظهور تنظيم الدولة الإسلامية، ونجاحه لاحقاً، في السيطرة على الموصل وأجزاء كبيرة في العراق وسورية، بما في ذلك مناطق متاخمة لحدود البلدين مع الأردن، وضع الأخير تحت التهديد المباشر للتنظيم، وهو ما وفّر التبرير اللازم لانضمام الأردن إلى التحالف الدولي لمناهضة الإرهاب، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
على أن العام المنصرم، 2016، شهد عدة عمليات استهدفت الأردن، ولم يكن مصدرها جميعها خارجياً، ففي إربد والبقعة والموقر جاء التهديد الإرهابي من الداخل، الأمر الذي تعزّز بموقعة قلعة الكرك التي تحصنت وراء أسوارها خلية إرهابية محسوبة على تنظيم الدولة الإسلامية، ووقع ضحيتها 11 شهيداً، معظمهم من قوات الدرك والشرطة. وقد تبين أن أعضاء الخلية المذكورة ينتسبون الى عشائر أردنية معروفة، وممن سبق أن اعتقلوا لمحاولتهم الالتحاق بالتنظيمات الإرهابية، ثم تم الإفراج عنهم.

تحوّل داخلي
وهكذا، كشفت وقائع التهديدات الإرهابية خلال العام الماضي (2016) عن تحول مهم في مصادر التهديد، لتصبح داخليةً بالأساس، وهو تحوّل مرشحٌ لتعظيم مخاطر التهديد مع ازدياد احتمال عودة المقاتلين المتشدّدين الأردنيين إلى بلدهم، مع تضييق الخناق على تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات الإرهابية الأخرى في سورية والعراقِ، وانحسار مساحة هيمنتها وقدراتها اللوجستية وتضعضع مصادر مواردها المالية، والأهم من هذا كله إيقاع خسائر جسيمة في قواها القيادية والكادرية.
لكن، بخلاف العمليات الإرهابية السابقة، كشفت موقعة الكرك عن حقائق صادمة للأردنيين، 
لعل مبعثها ارتفاع عدد الضحايا إلى 11 رجلا من قوات الأمن والمواطنين وسائحة كندية، فضلاً عن إصابة عشراتٍ من أفراد الأجهزة الأمنية والمواطنين. كان في مقدمة هذه الحقائق الصادمة ما تكشّف من سوء إدارة التعامل الأمني مع التهديدات الإرهابية ذات المصدر الداخلي. إذ تبين أن أعضاء الخلية الإرهابية معروفون جيداً للأجهزة الأمنية التي سبق أن اعتقلتهم في أثناء محاولتهم الالتحاق بتنظيم الدولة الإسلامية في سورية، ثم لم تلبث أن أفرجت عنهم، من دون أن تتبع ذلك بمراقبة صارمة لهم. وقد تمكّن هؤلاء من تكديس كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر والمتفجرات في مخبأ سري لهم في بلدة القطرانة، ولولا تبليغ مالك البيت الذي لجأوا إليه، لما تم اكتشاف الخلية، وهو ما حال، بالمصادفة البحتة، دون قيامهم بعمليات واسعة. كما تخللت عمليات محاصرة الخلية المذكورة في قلعة الكرك، ثم في أحد منازل بلدة قريفلا، سلسلة من الأخطاء التي أسهمت في رفع عدد الضحايا من قوات الدرك والأمن والمواطنين.
أظهرت الحكومة، بدءاً من رئيس الوزراء هاني الملقي، مروراً بوزيري الداخلية سلامة حماد والدولة لشؤون الإعلام محمد المومني، ارتباكاً مفرطاً في التعاطي مع الحدث. ففي لقائه مع مجلس النواب عشية واقعة الكرك، أعطى رئيس الوزراء أرقاماً مبالغاً فيها عن عدد الإرهابيين وجنسياتهم، وأخفق وزير الداخلية والناطق باسم الحكومة في تقديم المعلومات والتوضحيات اللازمة في مؤتمرهما الصحفي المشترك. والأنكى أن التلفزيون الأردني الرسمي أحجم عن نقل وقائع الاعتداء الإرهابي في الكرك فور حدوثه، تاركاً تغطيته للقنوات الخاصة ووسائل الاتصال الاجتماعي التي تولت بث أشرطة فيديو عن الاشتباكات من الميدان مباشرة. ثم غابت الحكومة عن المشاركة في تشييع شهداء الاعتداء في اليوم التالي، ما زاد الاستياء والغضب الشعبي على ما كشفت عنه واقعة الكرك الإرهابية من سوء معالجة الحكومة أمنياً وسياسياً وإعلامياً، وهو ما دفع مجلس النواب الأردني إلى تشكيل لجنة برلمانية لتقصي حقائق الاعتداء الإرهابي، برئاسة النائب مازن القاضي، وهو وزير داخلية سابق، وعضوية عشرة نواب من مختلف الكتل.
وقبل ذلك، كان 47 نائباً قد تقدموا بطلب الى رئاسة مجلس النواب لعقد جلسة خاصة لطرح الثقة في وزير الداخلية، سلامة حماد، على خلفية سوء الأداء الحكومي في معالجة واقعة الكرك. وفي الثالث من يناير/ كانون الثاني الجاري، ردت الحكومة بطلب تأجيل طرح الثقة بالوزير حماد عشرة أيام، بدون التنسيق مع الوزير المذكور، ما دفعه بالضرب على الطاولة أمامه، والإعلان عن رغبته بعدم تأجيل طرح الثقة به. وكان قد وصف المعالجة الأمنية مع المجموعة الإرهابية بأنها كانت "ناجحة وتمت بحرفية كاملة"!

أصوات مؤيدة للإرهاب
أكثر الحقائق الصادمة، والتي كشفت عنها تداعيات واقعة الكرك، هي تنامي جرأة الأصوات
المؤيدة للإرهاب والتطرّف في الإعلان عن نفسها جهاراً، وهو ما كشفت عنه وسائل الاتصال الاجتماعي، منذ أشهر، تزامناً مع اغتيال الناشط اليساري الأردني، ناهض حتر. وعشية واقعة الكرك الإرهابية، وبالتزامن مع الاعتداء الإرهابي الذي ضرب أحد ملاهي إسطنبول ليلة رأس السنة الميلادية، تصاعدت الأصوات التي أظهرت تشفياً مرضياً بضحايا ذلك الاعتداء، بما فيهم الأردنيون. فقد سجلت مواقع التواصل الاجتماعي مواقف مخجلة من الشماتة بهؤلاء، عاكسة مواقف تضمر التأييد للجماعات الإرهابية، بدلاً من التعاطف مع ضحاياها. وردّت الحكومة على ذلك بإيقاف عدد من أصحاب الحسابات على "فيسبوك" وغيره ممن استخدموا هذه المنصات لبث كراهية الآخر والتحريض عليه والشماتة به. وأعلن الناطق باسم الحكومة الأردنية، محمد المومني، أن حكومته تدرس إصدار تشريع قانوني لمعالجة إساءة استعمال "فيسبوك" ووسائل الاتصال الاجتماعي لبث الكراهية ودعم التطرّف والعنف.
وفي واحدةٍ من أكثر الحقائق الصادمة، ما كشف عنه وزير الأوقاف، وائل عربيات، أن 22 إمام مسجد في المملكة امتنعوا عن إقامة صلاة الغائب على أرواح شهداء العمليات الإرهابية في محافظة الكرك. وفي الوقت نفسه، نفى الوزير أن يكون هؤلاء منتمين إلى جماعات متطرفة، ما يؤكد أن الداعشية في الأردن باتت ظاهرة منتشرة فكرياً وأيديولوجياً دونما حاجة إلى أطر وصلات شبكية رسمية.
في المقابل، أظهر المجتمع الأردني نوعاً من الرفض العفوي والفوري لظاهرة الإرهاب، وهو ما تجلى في هبة أهالي الكرك باتجاه قلعتهم التاريخية لقتال المجموعة الإرهابية، غير آبهين بالرصاص المنهمر من فتحات القلعة التي تحصّن بها أفراد الخلية. وشهدت المدن والحواضر الأردنية، في الأيام التالية لواقعة الكرك، أوسع مظاهر التضامن مع أهالي الكرك وضحايا الإرهاب، من قوات أمن ومدنيين، حيث نظمت عشرات المسيرات والوقفات الرافضة للإرهاب والتطرّف والتعصب الديني. وأصدرت مختلف الأحزاب والتنظيمات المهنية والنقابية والمدنية بياناتٍ تؤكد تصميم الأردنيين على مكافحة الجماعات الإرهابية والمتطرّفة.
لكن، على الرغم من هذا كله، لا مناص من الاعتراف بأن المجتمع الأردني كان ولا يزال يفتقر إلى شبكات الدفاع الاجتماعي الضرورية لتحصينه من مخاطر التطرّف والعداء والكراهية للآخر. وقد كشفت دراسة أعدها الباحث فارس بريزات على شباب ثلاث محافظات أردنية (الزرقاء وإربد والطفيلة) أن نحو 5% من الشباب الذين تم الالتقاء بهم يرون "أن تنظيم القاعدة وجبهة النصرة وتنظيم داعش يعبرون عن وجهة نظرهم". وتعادل هذه النسبة نحو 290 ألف شخص بالغ، وهم، حسب بريزات، فئة من السكان الذكور التي تتركّز في المدن، وأغلبهم من المتعلمين ومن أسر يتجاوز دخلها 800 دينار فأكثر (نحو 1150 دولارا فأكثر).
وفي المحصلة، أعادت موقعة الكرك النظر في اعتقاداتٍ تم التسليم بها سابقاً. وكشفت، في الوقت نفسه، عن ظواهر لم يعد ممكناً التغاضي عنها. ومن المسلمات التي تبين عدم صحتها الاعتقاد بأن الوسائل والمعالجات الأمنية كفيلةٌ بوضع حد للتهديد الإرهابي، بل إن واقعة الكرك شكّكت أيضاً بمسلمةٍ أخرى، وهي أهلية القوات الأمنية في التصدّي للإرهاب، حيث أكدت الحاجة لإعادة تأهيلها وتعريفها بطبيعة العدو الذي تواجهه.

حقائق مسكوت عنها
أما الحقائق المسكوت عنها، والتي لم يعد ممكناً تجاهلها، فأبرزها تنامي الفكر المتطرف
والإقصائي في المجتمع الأردني، ليس فقط تحت تأثير الحركات والتنظيمات المتطرّفة، وإنما أيضاً بتأثير التعليم الحكومي، منهجاً وأطراً تعليمية، ما استدعى مباشرة مراجعة فورية للكتب المدرسية التي أُدخلت عليها تعديلاتٌ خجولة، لتحريرها من التزمت والانغلاق. وفي الوقت نفسه، جاء نشر الخطة الحكومية لمكافحة التطرّف، والتي كانت قد أقرتها حكومة عبدالله النسور، عام 2014، وأبقتها سرّية، لتظهر عدم جدية السلطات الحكومية وافتقارها إلى استراتيجيات واضحة وأدوات تنفيذ حازمة لاستئصال جذور التطرّف والإرهاب والتكفير والعداء للآخر، وهو ما أجمع عليه مسؤولون حكوميون وإعلاميون وباحثون.
لم تكن واقعة الكرك، وقد أثارت ما أثارت من تداعياتٍ وذيول، لتنتهي من دون دحرجة بعض الرؤوس، قرباناً وتكفيراً عن الأخطاء والخطايا التي مهدت وأدت إلى التهديدات الإرهابية الأخيرة. وهكذا تم استبدال مدير الأمن العام، عاطف السعودي، بمدير جديد هو أحمد سرحان الفقيه، ثم استحداث تعديل وزاري عشية طرح الثقة بوزير الداخلية، سلامة حماد، حيث استبدل بوزير جديد.
وبذلك، تم تفادي وقوع صدام بين مجلس النواب والحكومة، كما سمح التعديل لرئيس الوزراء بإدخال "دماء جديدة" على حكومته، لعل أبرزها عمر الرزاز، نجل منيف الرزاز الأمين العام الأسبق لحزب البعث العربي الاشتراكي، الذي قضى نحبه في مقر إقامته الإجبارية في بغداد، وهو أيضاً الشقيق الأصغر للأديب الراحل مؤنس الرزاز. وعمر الرزاز خبير سابق في البنك الدولي، وكان قد تولى مناصب مهمة في القطاعين، العام والخاص، قبل أن تسند إليه حقيبة التربية والتعليم، ما يؤشر إلى أن إصلاح التعليم بات أولوية حكومية بامتياز.
هل ستشكل هذه المعالجات الحكومية رداً كافياً على تهديدات التطرّف والإرهاب والتفسيرات المتشددة للدين الإسلامي؟ المؤكد أن معركة مواجهة هذه التهديدات ليست قصيرة، وقد تتطلب سنواتٍ طويلةً من العمل الدؤوب لإصلاح المؤسسات الدينية والتعليمية وإعادة تأهيل الأطر التربوية وتنقيح المناهج مما اعتورها من مضامين متزمتة ومتصادمة مع العصر. لكن المواجهة مع الفكر المتطرّف تتطلب مشاركة واسعة من مختلف المؤسسات الإعلامية والثقافية، ومن منظمات المجتمع المدني.
على أن المهمة الأصعب هي التصدّي لتحديات الفقر والبطالة التي توفر بيئةً ملائمة لنمو ظواهر اليأس والإحباط الاجتماعي والنزوع نحو التطرّف. يكفي هنا أن نشير إلى أن نسبة البطالة بين الشباب الأردني بلغت 40% ممن هم في سن العمل، حيث ينتظر الشباب عدة سنوات بعد تخرجهم للحصول على فرصة عمل. كما لا بد من وضع حد للتمايزات الاستفزازية في الدخول وأنماط المعيشة بين النخب الطبقية والبيروقراطية الحكومية وبين سائر مكونات المجتمع الأردني، وهي تمايزات يغذّيها الفساد والإفساد أكثر مما تفسّرها آليات السوق والاقتصاد الحر.
63574C85-2EAC-4D3E-BA5E-B0892FA44AC0
63574C85-2EAC-4D3E-BA5E-B0892FA44AC0
هاني حوراني

باحث وناشط سياسي أردني باحث، مؤسس مركز الأردن الجديد للدراسات منذ 1990. له مؤلفات في الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والتنمية الديمقراطية. يجمع، أخيراً، بين النشاط السياسي والممارسة الثقافية والفنية.

هاني حوراني