أما آن لهذا الزيف أن ينتهي

أما آن لهذا الزيف أن ينتهي

20 يناير 2017
+ الخط -
يأتي الأمر الذي يتعلق بتجدّد مشاهد الاستباحة في مصر في إطار ما يقوم به النظام الانقلابي، وما يعبّر عنه من فشلٍ في حماية جنود مصر. ومع ذلك، لا يتردّد لحظةً في الغضب من هؤلاء الذين يعلنون أن تقصيراً وفشلاً أمنيين يشكلان حالةً أصبحت متكرّرة، وتعبّر مع تكرارها عن الأخطاء نفسها التي تتعلق بأمن مصر القومي، تتكرّر هذه الأجواء في عملٍ فاضحٍ، يستخفّ بالنفوس ويخرج بالرواية نفسها عن وزارة الداخلية في أحداث سابقة.
ونجد البيان نفسه يتحدّث ببجاحة، متفاخراً أنه تم "تصفية" عناصر معينة في "شقة"، ثم يتركون الجثث ويصوّرونها، مدّعين أن هؤلاء كانوا مجتمعين، أو متجمعين، وتبادلوا إطلاق النار مع الأجهزة الأمنية. وعلى إثر ذلك، تمت تصفيتهم، ثم يربطون هذه "التصفية" بأن ذلك لم يكن من أجهزة الأمن إلا انتقاما لما تعرّضت له من عملياتٍ استهدفتهم أخيراً (حدث ذلك عقب حادث كمين المطافي في العريش، وحادث كمين العجيزي في المنوفية، وغيرهما من الوقائع المشابهة) ويروّجون ذلك باعتباره نجاحاً منقطع النظير.
هذا هو نموذج الرواية الخائبة التي احترفها هؤلاء، والتي يتم، في كل مرة، تكذيبها من ذوي هؤلاء المغدورين، بتقديمهم روايةً أخرى، فتكون الفضيحة. كيف أن هؤلاء الذين اتُهموا ثم صُفّوا كانوا في قبضة الأمن معتقلين قبل شهور معلومة؟ وعلى سبيل المثال، كان أبناء العريش في حوزة وزارة الداخلية منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فكيف لهم أن يقوموا بتدبير هذا الحادث (استهداف كمين المطافي) وتنفيذه، وهم رهن الاعتقال، مجموعة من شباب مصر بعضهم لم يبلغ العشرين عاماً بعد، وآخرون تجاوزوا العشرين بقليل، لا يتورّع هذا النظام عن قتلهم على نحو جبان، ثم يدّعون كل الدعاوى الكاذبة في رواية زائفة.
كان ذلك مستفزاً لذويهم من أهل العريش وقبائلها أن يقتل أبناؤهم بدمٍ باردٍ خارج إطار القانون، 
فخرج الأهالي ليكشفوا عن فشلين: الأول في استهداف الكمين (من مهامه التأمين)، والثاني في اختلاق روايةٍ عن المنفذين وتصفيتهم، في محاولة للتغطية على الفشل الأول بالفشل الثاني، يدمن هؤلاء الفشل المركب، حينما يقومون بهذا الفعل، وما زالوا يتحرّون الكذب في كل روايةٍ، ويقدّمون حالاتٍ من التناقض في الروايات، حتى إن روايتهم تملك عناصر نقضها من غير عبء كبير، في كل مرة يستخفون بأرواح الجنود، ومرة أخرى يستبيحون أرواح من اتُهموا فيهم، ومرة ثالثة يستخفون بعقول الناس بروايتهم الزائفة.
كان ذلك بداية تحرك أهالي العريش، ينافحون عن أبنائهم أمام هذا الجهاز الأمني الفاشل الخائب، لا يستطيعون السكوت عمن قتل أبناءهم، لفشله في قيامه بعمله الأساسي، كان عليهم أن يكشفوا المستور، ويؤكّدوا زيف هذه الرواية. خرج هؤلاء باجتماعٍ فيما بينهم، يندّدون بهذه الطريقة الحمقاء الخرقاء التي تشكل حالةً من البلاهة، وافتراض أن الناس لا يفهمون، وربما لا يتتبعون، وبالتالي سيصدقون هذه الرواية المتناقضة. بدا هؤلاء في مشاهد استباحة وتعرية وفضح لهذه الروايات الزائفة، لسبب بسيط، أنه تم استهداف أبنائهم بدم بارد وباستخفاف فادح، فصارت ممارسة القتل والتصفية أحد المشاهد التي يداري بها هؤلاء فشلهم الذريع.
مشهد متكرّر استهداف لجنود، وإخفاق الأجهزة الأمنية في مواجهة ذلك، واختيار "الداخلية" بعضاً ممن هم تحت يديها، لتصفيتهم وإسناد الفعل زورا وبهتانا إليهم. مع تكرار هذه الرواية، طفح الكيل، وصار الناس لا يستطيعون الصمت على تكرار عملية الاستباحة المحفوفة بحالةٍ من الاستخفاف والبجاحة والافتراء.
في الوقت نفسه وبعده بأيام، يتم حديث هؤلاء عن فقدان مدرّعة، ليعبّروا ليس فقط عن تقصير أمني، ولكن عن إهانات متوالية، ليتأكد أن هذه المنظومة الانقلابية لا تهتم بأي حال بمواجهة هؤلاء الذين يستهدفون أمن مصر وجنودها، ولكن تعبيرا عن حالة ترهل في الأداء، وفي القول كذب وافتراء. ويترافق مع هذا الإعلان عن حدث آخر يشكل حالة استباحةٍ على امتداد الجغرافيا المصرية، هذه المرة على طريقٍ مختلف، وفي جغرافيا أخرى، يتم استهداف كمين بالشكل نفسه، (استهداف ثم تأتي عربات الإسعاف ثم استهداف). وتكرار المشاهد نفسها، وكأن هذه الأجهزة قد أصيبت بالتعامي نفسه عن الأحداث. والوقائع لم تتعلم منها أي شيء، استباحة لجغرافيا جديدة في مصر، ثم يخرج من يخرج بالنغمة والأسطوانة المشروخة نفسها، مؤكّدا أنه لا يوجد أي تقصير أمني.
ما هذا الذي يمكن أن يحدث إلا أن يكون الجهاز الأمني مسيّساً، يواجه خصماً مصطنعاً، ويفشل 
في مواجهة الخصم الحقيقي، نكّل بما أسماه الإرهاب المحتمل وتلاعب به الإرهاب الحقيقي، ثم يأتي سدنة إعلام إفكه، فلا يتحدثون إلا عن إرهابٍ ومواجهة الإرهاب، فتخرج القرارات لمواجهة آخرين، وتدبج القوائم ليضعوا عليها من لا يمكن وصفهم بالإرهابيين على قوائم الإرهاب، تاركين الإرهاب الحقيقي يمرح ويتلاعب.
تترافق مع ذلك حالة إعلامية تتناسب مع حالة الاستباحة والاستخفاف، فمن كان بالأمس متحدثا عسكريا خلع بزته العسكرية وصار نائبا في مجلس إدارة شركات لإدارة قنوات وفضائيات إعلامية، وها هي مجموعة من القنوات نشأت في حضن أجهزة أمنية ومخابراتية، وكأنه لم يكفهم خدمة هؤلاء الذين يشكلون سدنةً لإفكهم وغصبهم وترويج فشلهم بانتصارات زائفة، ما لهذا الزيف صار ديدناً لهذه الطغمة الانقلابية ضمن هيمنةٍ فجّةٍ وفاجرةٍ، لم يكتفوا فيها بمن يعمل لديهم في وسائل الإعلام، لكنهم دخلوا إلى هذا المجال ليواصلوا إفك النظام الفاجر الفاشي وترويج فشله المتكرّر في ثوبٍ من النجاحات الكاذبة والفناكيش الفاضحة.
ألم يئن لهذا الزيف أن يتوقف؟ هذا الزيف الذي يحملونه لم تكن ثمرته إلا قتلاً لجنود، وقتلاً لأبرياء في سلسلةٍ مريبةٍ من القتل المستمر في عرضٍ مستمر، لا يهم هؤلاء عدد من قتلوا، ولكن يهم هؤلاء أن يحصدوا انتصاراتهم الزائفة الخائبة في معزوفة الافتراء والكذب، يقوم بها سدنة الإفك الإعلامي وأذرعه.
نقول وبأعلى صوت لهؤلاء الذين يعسكرون المجتمع، والمادحين المنافقين لذلك، إنه على الرغم من تلك العسكرة، تضيع كل مظاهر الأمن والأمان، ويزيد عدد القتلى من كل صوبٍ وحدبٍ من الجنود والأهالي. صرخة يجب أن نطلقها: أما آن لهذا الزيف أن ينتهي؟ من طغمة انقلاب لم تحمل إلا الخراب لمصر وأهلها، لمصر الوطن والشعب، قالوا.. إنهم يحمون الأرض والنفوس، فإذا بهم يستبيحون الأرض والعرض وكل نفس، للحفاظ على كراسيهم، ومصالحهم الخبيثة والدنيئة. أما آن لهذا الزيف أن يتوقف وينتهي.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".