حكاية قلب لا يصدأ

حكاية قلب لا يصدأ

19 يناير 2017
+ الخط -
بعد أن خرج من السجنِ، التفت ميمنةً ثم ميسرةً وأطلق العنانَ إلى قدميه للسيرِ عبر "حلابات" معبر إيرز بيت حانون الفاصل بين قطاعِ غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة، فلم يجدْ قلبَ محبوبتة في انتظارِه، كما وعدته قبل عشرين عاما في أولِ زيارةٍ له عندما حُكم بالسجن 20 عاماً قضاها عامَ تلو آخر. ولكنه لم يجدْها، بل وجد راياتٍ مزركشاتٍ وألواناً وأحزاباً ومكبراتِ صوتٍ وسياراتٍ وزماميرَ وشخصياتٍ يعرفُها ولا يعرفُها، حملوه على الأكتافِ "بالروح بالدم نفديك يا أسير"، سار المركبُ المهيب يشقُ أطرافَ المخيم، والمسلحين مدججين يطلقون النارَ في الهواءِ فرحين مهللين، "نموتُ وتحيا يا أسير"، يا الله أهذا حلمٌ أم حقيقة؟
في أرضِنا الفلسطينية حكاياتُ عشقٍ لا تكونُ فقط بين البشرِ، ولكن في واقعِنا الفلسطيني تجد حكاياتِ عشقٍ غريبة وعجيبة، ليس بفعلِ مرضٍ نفسي، أو اضطرابٍ عقلي، بقدرِ ما هو تجاوبٌ وتجاذبٌ وتفاكر ما بين الحبِّ ومحبوبتة، فلا عقل يستطيعُ أن يفسر أن يُحبَّ السجين باب السجان وأضلاعه ومركباته، إني أشاهدُ وأراقبُ الصدأَ يأكلُ أطرافَ البابِ يوما بعد الآخر، الحديدُ يصدأُ وقلبُ الفلسطيني لا يصدأُ ينبضُ فكراً، ينبضُ حُباً، يتنفّسُ صبراً، يتأملُ دهراً، لا يقهرُ، عاش للموتِ والموتُ بعيدُ المنالِ عنه، مات السجانُ وجاء ابنُه وأيضا مات الآخر، ولم تقفْ عجلةُ الحياةِ على أبوابِ ذلك السجن.
أقتبسُ من كلامِ المحرّرِ من الأسرِ، المبعد إلى غزة، منصور ريان "أن تكونَ محكوماً مدى الحياة... ومعتقلاً 20 عاماً في سجون الاحتلال... وأن تعاني التعذيبَ والشبحَ والضربَ والعنفَ الجسدي والنفسي... وتعاني الموتَ البطيءَ كلَّ يومٍ من هذه السنواتِ العشرين... وتكون محروماً من كلِّ شيءٍ، ومن أبسطِ الحقوقِ الإنسانية... وتحلم بالحرية ِكلَّ يومٍ وكلّ ليلةٍ ولحظةٍ ودقيقةٍ وتستيقظ على أصفادِ السجان ويتبخر الحلم، ويبدأ اليومُ الثاني بحلمٍ جديدٍ ويتبخر الحلم بسماعِ أصفادِ السجان، ويبدأ اليوم الثالث بحلمٍ جديدٍ ويتبخر الحلمُ بسماعِ أصفاد السجان، وينتهي العامُ الأول بانتهاء 365 حلماً، ويبدأ العام الثاني بـ 365 حلماً جديداً بالحريةِ ويبدأُ العام الثالث وينتهي والعام الرابع وينتهي والعام الخامس والسادس والسابع والثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر والعشرون بـ 87.600 يوم، وفي كلِّ يومٍ حلمٌ بالحريةِ ويتبخر 87.600 حلم عندما تستيقظُ على أصفادِ السجانِ كلَّ صباح.
ما زال خلفَ القضبانِ معتقلون محكومون مدى الحياة، ويحلمون كلَّ يومٍ منذ 20 عاماً و25 عاماً و30 عاماً و35 عاماً بالحريةِ كلَّ صباحٍ وتتبخر أحلامُهم عندما يستيقظون على صوتِ أصفادِ السجان.
في هذا اليومِ، وأنا أحملُ ابني البِكر عبيدة وهو يبتسمُ ببراءةٍ، أتذكرُ هؤلاءِ الأسرى الذين بقوا خلفنا يعانون ويموتون ببطء كلّ لحظة، الأسرى محمود عيسى من القدس وعمار الزبن من نابلس وكريم يونس من الداخل ونائل البرغوثي من رام الله ومعمر الشحروي من طولكرم وجمال الهور من الخليل وعباس السيد من طولكرم وحسن سلامة من غزة وإبراهيم البيادسة من الداخل وجمعة أدم من أريحا وغيرهم الكثيرون ما زالوا هناك خلفَ الشمسِ في سجونِ جلبوع ونفحة ورامون وايشل وشطة والدامونش وهشارون وتلموند ونفحة وعسقلان والنقب ما زالوا يحلمون بالحريةِ كلَّ يومٍ ويستيقظون على صوتِ أصفادِ السجان.
انتهى الاقتباسُ، ولم تنته معاناة سبعة آلاف أسيرٍ فلسطيني خلف أسوارِ وقضبان ِالسجان الإسرائيلي، تلك الأرواحُ التي تنتظرُ يومَ ولادتِها من جديدٍ، في ظلِّ حالةٍ فلسطينيةٍ توّحدُها تلك الأرواحُ داخل السجنِ، وتسهرُ على راحتها وهي تتألمُ، ومن همٍ في الخارجِ بعضهم أو أغلبهم لا يكلفون أنفسهم بالذهابِ إلى الاعتصامِ الأسبوعي في مقراتِ الصليب الأحمر المنتشرة في ربوعِ الوطن.
سبعة آلافِ قلب ينبضُ في وقتٍ واحدٍ، يصرخُ بالصوت نفسه، يتحمّلُ طريقَ الألم، يسيرُ إلى ما وراءَ الشمس وخلفَ القمر، لا يعرفون من الأيامِ إلا يومَ يشمّون فيه رائحةَ نسيمِ الحرية.
8981FDE1-0454-4CBC-894E-2351C53A26E0
8981FDE1-0454-4CBC-894E-2351C53A26E0
أشرف أبوخصيوان (فلسطين)
أشرف أبوخصيوان (فلسطين)