"أمران غير ممكنين"

"أمران غير ممكنين"

18 يناير 2017
+ الخط -
لا مبالغة في القول إن دولة الاحتلال الإسرائيلية بدت راضيةً جدًّا من نتائج مؤتمر باريس بشأن الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني الذي عُقد في 15 يناير/ كانون الثاني الجاري. ومنعًا لتكرار كل أسباب هذا "الرضى"، التي وردت في تعليقات كثيرة، أكتفي بالإشارة إلى الأسباب الآتية:
أولًا، لم يتجاوز المؤتمر غاية محاولة دعم "طرفي الصراع لمساعدتهما على العودة إلى طاولة المفاوضات الثنائية".
ثانيًا، كان نص البيان الختامي الذي صدر عن المؤتمر "أخفّ وطأةً" على دولة الاحتلال، مقارنة بالمسودة الأولية التي وزعها المضيفون الفرنسيون في وقت سابق، حسبما أكدت "مصادر سياسية إسرائيلية مسؤولة"، مشيرة، في الوقت عينه، إلى أن النص المخفف جاء بفضل ضغوط مارسها الأميركيون!. وبموجب هذه المصادر، على الرغم من أن هذا البيان أيّد قرار مجلس الأمن 2334 حول الاستيطان الإسرائيلي، إلا أنه جرى إسقاط النص الذي دعا إلى التمييز بين "إسرائيل والمستوطنات"، والذي اعتبرته دولة الاحتلال بوابة للمقاطعة.
ثالثًا، أزال المؤتمر احتمال اتخاذ أي قرار إضافي ضد إسرائيل في مجلس الأمن لدى انعقاده بعد أيام.
تزامن انعقاد مؤتمر باريس مع مرور ربع قرن على مؤتمر مدريد في أكتوبر/ تشرين الأول 1991. وفي المناسبتين، أفاد يوسي أحيميئير، وكان مديرًا لمكتب رئيس حكومة إسرائيل في ذلك الوقت يتسحاق شامير، بأن الأخير اضطر، بكيفيةٍ ما، إلى حضور ذلك المؤتمر. لكن بموازاة هذا تعاون مع واشنطن، إبّان إدارة جورج بوش الأب على ألّا يشكل الافتتاح الدولي لذلك المؤتمر أكثر من استهلال طقوسي، ومن ثمّ تبدأ منه مفاوضاتٌ مباشرة بين دولة الاحتلال وكل واحدة من جاراتها، وهذا ما حدث.
ووفقًا لأحميئير، صُمّم مؤتمر مدريد تمامًا على مقاس مطلب إسرائيلي متعنّت، يرفض بشكل بات انعقاد أي محفل دولي يملي حلًا للصراع بين دولة الاحتلال وأيٍّ من الدول المجاورة لها ولا سيما بينها وبين الفلسطينيين. وكان رفض فكرة المؤتمر الدولي لتسوية المسألة الفلسطينية مبدأ أساسيًا في السياسة الإسرائيلية الرسمية. وبالنسبة إلى شامير تحديداً، فإن شأن أي مؤتمر دولي سيكون شأن محكمة ميدانية فيها متهم واحد، أي طرف واحد يخرج مُدانًا ويدفع كل الثمن، في مقابل طرفٍ آخر مستفيد ومدعوم من أعضاء هيئة القضاة، ولا يُجبر سوى على توقيع مجرّد "ورقة" تُسمّى "اتفاق سلام".
ويذكر كثيرون أن رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالية، بنيامين نتنياهو، كان رئيس الطاقم الإعلامي للوفد الإسرائيلي الذي شارك في مؤتمر مدريد.
ومع أنه جرت، منذ مؤتمر مدريد، مياه كثيرة في منطقة الشرق الأوسط، وعلى صعيد القضية الفلسطينية، صبّ قسم منها في صالح الفلسطينيين، كما رأى الزميل معن البياري ("في معنى مؤتمر باريس"، 16/1/2017)، فإن من شأن العودة الآن إلى حيثيات ذلك المؤتمر وأدبياته أن تجعلنا نستنتج أن إسرائيل ما تزال تناور بين أمرين، اعتبرت أنهما غير ممكنين، وهي تفاوض الولايات المتحدة على حضور ذلك المؤتمر. وهو ما كشف عنه يوسي بن أهارون، المدير العام لديوان رئاسة الحكومة الإسرائيلية خلال ولاية شامير، في إطار مقابلة صحافية معه عام 2008.
ومما قاله بن أهارون: فيما يتعلق بخلافنا مع الأميركيين بشأن منظمة التحرير، كتبت رسالة إلى الرئيس بوش ووزير خارجيته جيمس بيكر وقع عليها شامير، أوضحنا فيها أنه توجد بيننا وبين العرب الذي يعيشون في فلسطين درجة معينة من تماثل المصالح... والسؤال كيف يمكن الوصول إلى تسويةٍ مؤقتةٍ وتعايش سلمي مشترك؟... قلنا إن هناك أمرين غير ممكنين: طردهم أو منحهم دولة... الفرق بين هؤلاء الفلسطينيين ومنظمة تحرير تونس أن الأخيرة تمثل الشتات، ولذا هي ملتزمة بشكل راسخ بـ "حق العودة" الذي يعني تصفية إسرائيل.
لئن كان الأمر الأول غير ممكن، بسبب صمود الفلسطينيين أساسًا، فإن الأمر الثاني لم يكن واردًا من وجهة نظر دولة الاحتلال إزاء ذلك "التعايش".