ترامب في مرمى ميريل ستريب

ترامب في مرمى ميريل ستريب

17 يناير 2017

ميريل ستريب صوت في هوليود ضد ترامب (8/1/2017/Getty)

+ الخط -
شكّلت خرجة "ملكة" الشاشة الهوليوودية، ميريل ستريب، المتوجة، أخيراً، في مهرجان غولدن غلوب، صفعة قوية على قفا الرئيس المنتخب دونالد ترامب، وهو بعد لم يسخن مقعده الرئاسي في البيت الأبيض، على أثر محاكاته بسخرية مقزّزة الصحافي الأميركي، سيرج كوفاليسكي، ذي الاحتياجات الخاصة.
كلمة الملكة في المهرجان المهم، ومن جاء بعدها، ثم من كان قبلها، وعلى لسان مسيّر فقرات ليلة الاحتفال الفنان جيمي فالون، أعادت إلى الذهن من جديد علاقة الفن بالحياة، وأهميته في السمو بالذوق في المجتمعات الحديثة.
يخطئ من يعتقد أنه يمكن أن نحيا بغذاءٍ بلا طعم ولا رائحة، ونتعلم في مدارس بلا لون ولا هوية، ونصنع آلاتٍ بلا تصميم ولا هندسة، وأن نصلي في الكنائس أو البيوت أو المساجد بغير تراتيل ولا أنغام ولا تجويد لكلمات الله العليا. الذين يقولون هذا إنما يريدون أن يعاكسوا الطبيعة، كما هي مخلوقة بأنساقها المنتظمة البارعة الفنانة، فلا يمكن أن تمتد الحياة فيها بلا رياح لواقح، ولا سحب نواضح، ذلك لأن الفن موضوع في جيناتها وجنباتها، لا تنفكّ في الفصح عنه بجلالها وعظمتها، تعبّر عنه تارة بالجمال في تناسق المناظر، وتارة آخرى بالأنغام، تعزفها بالحناجر والمناقير، والزقازيق والطقاطيق. فأينما تولّي وجهك ثمة فن في الطبيعة، مبثوثٌ لا تخطئه العين الراشدة والأذن اللاهفة والروح الهائمة، أودعها الخالق في أرواح المخلوقات والكائنات على اختلافها، لتقول بكلمة واحدة: الفن هو الحياة، هو الذوق، هو الجمال، وهو التقدّم والرقي والحضارة.
الفن بناءٌ للموقف، وتعبيرٌ صادق عنه. أعطني فناً راقياً أعطيك مجتمعاً مذواقاً سامياً، مجتمعاً لا يتطبع مع الظلم، ولا يخنع للظالم كائناً من كان، لسبب بسيط، لاحترام الفنان رسالته، لاعتباره المعياري في المجتمع، وإحساسه المرهف تجاه الأحداث في تفاصيلها وتعميماتها.. إنه نبض الحياة في كلياتها.

ما عبّرت عنه الفنانة ميريل ستريب، في كلمتها في مهرجان غولدن غلوب، وما أبدته من حساسيةٍ مفرطةٍ تجاه ترّهات "مقاول" غني غبي، اعتقد أن ثروته تجيز له الاستهزاء بالناس، والسخرية من ذوي العاهات والحاجات الخاصة، يندرج في هذا التوصيف للفن والفنانين. لذا، كان موقف ميريل ستريب تعبيراً سليماً عن روح اليقظة التي يجب أن تتسم بها النخبة في قيادتها مجتمعاتها في كل مناحي الحياة.
الحقيقة أن موقف ميريل هذا لم يشذّ عن القاعدة في المجتمعات الغربية، حيث للفن تجلياته وأدواره في السمو بالذوق، والتعبير عن الموقف. قبلها انتقد المخرج مايكل مور الرئيس جورج بوش لتدخله في العراق وأفغانستان، كما انتقد باراك أوباما، ويتابع اليوم مسيرته الفنية الرسالية بتوجيه النقد الصارم لترامب، كما فعلت ميريل ليلة توزيع جوائز غولدن غلوب. ومثله كان الممثل شون بين قد اتخذ خطوةً عمليةً تمثلت في نشر خطابٍ مطول مدفوع الأجر في صحيفة واشنطن بوست الأميركية، كلفه 56 ألف دولار في أكتوبر/ تشرين الأول 2002، طالب فيه الرئيس بوش بإنهاء حالة العنف، منتقدًا قراره آنذاك الحرب على الإرهاب، واعتبره "ينتهك المبادئ الأميركية، ويهمش الانتقادات الموجهة ضده، ويقوّض الحريات المدنية". ودأبت الفنانة سوزان سارندون على نقد سكان البيت الأبيض، فتجنّدت لنقد هيلاري كلينتون في الحملة الانتخابية أخيراً، واعتبرتها خطراً محدقاً على الولايات المتحدة وعلى العالم. وغيرهم فنانون كثيرون لم يتهيبوا، ولم يتوانوا في توجيه النقد اللاذع لرؤساء الولايات المتحدة.
ولعل من أكثر الفنانين إثارة للزوابع بتوجه انتقاداتهم اللاذعة للرؤساء الأميركيين هو المخرج مايكل مور. هو صحافي ألمعي، وكاتب فذ، وناشط سياسي مشهودٌ له بمواقفه الإنسانية، ومخرج عبقري لأفلامه الوثائقية التي انتقدت بشدة إدخال جورج بوش بلاده في حروبٍ ظالمةٍ على شعوبٍ مظلومةٍ لم تسئ قط للولايات المتحدة يوماً. ويوم رأى الجنود الأميركيين يعودون في توابيت، صاح بلسان فنان حقيقي، ذي ضمير حي في وجهه "عار عليك يا بوش". وهو اليوم يقود الحملة نفسها احتجاجاً على ترامب لتصريحاته المسيئة للمسلمين على الخصوص.
يتكرّر الموقف نفسه الآن مع الفنانة ميريل ستريب، في نقدها ترامب على خلفية حركاته الاستهزائية بالصحافي سيرج كوفاليسكي. لا ينبع نقد الفنانة الرئيس من خلفية أيديولوجية هذه المرة، باعتبارها داعمة لهيلاري، بخلاف سوزان سارندون. ولكن، من موقفٍ إنسانيٍّ عام، ومن دافع سيكولوجي خاص.
أما الموقف الإنساني فعبرت عنه باستهجانها دعوة ترامب الأجانب للرحيل عن الولايات المتحدة، لقناعته أن البلد هو بلد العنصر الأبيض الأميركي القح (نسي نفسه أنه ابن معمر جاء مهاجرا من ألمانيا، راغبا في تحقيق ذاته)، بل بلغت به الوقاحة أن اعتبر باراك أوباما ليس أميركياً أصيلاً. وتحداه أن يثبت شهادة ميلاد مختومة بخاتم أميركي، ما دفع ميريل إلى ذكر أصول كل من ريان غوسلينغ الكندية وروث نيجا الإثيوبية وأمي أدامس الإيطالية ونتالي بورتمان الفلسطينية (من القدس)، وكلهم فنانون لهم قيمتهم الاعتبارية والإنسانية التي طبقت الآفاق. وأضافت "هوليوود زاخرة بالأجانب. فماذا سنشاهد فيها غير أفلام كرة القدم الأميركية وأفلام فنون القتال الهجينة، لو ألقينا بهؤلاء الأجانب خارج الحدود".
ويتمثل الموقف الإنساني في نقدها ترامب لبجاحته بالاستهزاء بلا خجل بتقليد الصحافي ذي الاحتياجات الخاصة أمام كاميراتٍ كثيرةٍ، كانت مركّزة عليه في حملته الانتخابية يومها عن عمد. وهو الأمر الذي لم تستسغه ميريل ستريب بتاتاً، فاعتبرت ذلك إهانة لإنسانية الإنسان "حطم قلبها"، على حد قولها. ولم تتمكّن من نسيانه لسبب بسيط، هو أن الإيحاءات التي نمّت
عن حركات دونالد ترامب يومها لم تكن "لقطاتٍ" عابرة في فيلم سينمائي على شاشة عملاقة، بل كان أداءً حقيقياً نال من كرامة الإنسان. ثم أضافت: "هذه الغريزة في الاستهانة بالآخر حين تكون منمذجة من شخصية عامة قوية نافذة فذلك يكون مدعاةً للتغلغل في سلوك عموم الناس"، وأضافت: "تقليل الاحترام يولد قلة الاحترام. والعنف يدفع إلى العنف. وحين يقوم الأشخاص النافذون بتسخير مواقعهم لإهانة الآخرين فالكل يخسر".
تلك هي الرسالة التي فضلت الملكة تمريرها في أعقاب تكريمها في المهرجان. وكان في وسعها الاكتفاء بكلمة شكر لمنظمي الحفل، لتحتفظ بكل الامتيازات المادية والمالية في هوليوود من دون أن تدخل في حساباتٍ مع صناع السينما الخاضعين بدورهم لمنطق الربح والخسارة في تجارتهم الرأسمالية. لكن الإيمان برسالة الفن باعتباره مجالاً لتهذيب الذوق، والرقي بالإنسان، والتعبير عن الموقف في هذه الحياة، جعلها تختار ما اختارته عن وعي وقناعة.
بمواقف كهذه، يصبح الفنان حقاً حبيب الجماهير، وناطقاً أصيلاً بالضمائر، لأن الفن من رسائله أن ينمّي العقول، وييسر الحلول في المدارج العلا، حين يهذّب النفوس ويرقي الأحاسيس. الفن في النهاية ثورة على السمّج واستبعاد للهمج، واستجلاب للأفراح، وتزكية للأرواح بالفن لا بالعفن.
D01434A9-1D9A-46AC-A627-D4DFA33912B0
D01434A9-1D9A-46AC-A627-D4DFA33912B0
أحمد أولاد عيسى

كاتب وروائي مغربي

أحمد أولاد عيسى