ميريل ستريب... صوتها المبحوح الحزين

ميريل ستريب... صوتها المبحوح الحزين

16 يناير 2017

ميريل ستريب في فيلم "خارج أفريقيا" (Getty/1986)

+ الخط -
بصوتها المبحوح المرتجف، يخالطه لهاث المرض والتقدّم في العمر والحزن العميق على صديقة عمر رحلت منذ وقت قصير، مرتديةً ثوباً أسود طويلاً. وبتسريحة شعر أنيقة ومكياج خفيف لا يكاد يلمس يضفي عليها رفعة وجمالاً، اعتلت هذه الستينية الباذخة، شابة الروح ذات الحضور الإنساني العفوي الآسر، منصّة جوائز "غولدن غلوب". ومثلما فعلت طوال مسيرتها الفنية الحافلة بالإبداع والتميز، قدّمت ميريل ستريب من تلك المنصة، وعلى سمع العالم وبصره، درساً عملياً مباغتاً في كيفية الجمال، في كلمة مقتضبة لاذعة ذكية غير متفذلكة، مستخدمةً أبسط الكلمات وأكثرها قدرة على التأثير، على الرغم من أنها ذات مضمون سياسي بحت، وجهت فيه انتقاداً شديداً لرئيس بلادها المنتخب، مندّدةً بسلوكه الفظ، حين أهان صحافياً يعاني من إعاقة حركية، مقلداً إياه بشكلٍ مبتذل.
أنهت ستريب كلمتها القوية المؤثرة، متمسكةً بدور الفن في الارتقاء بالروح وتخطي الأوجاع، فصفق لها العالم من جديد، وهي الأسطورة الحية، كما اتفق النقاد على تسميتها منذ بدأ اسمها في الصعود مكرساً واحداً من أيقونات السينما العالمية، وهي الفنانة الفذّة البارعة الأكثر ترشيحاً وحصداً لجوائز الأوسكار الأستاذه المتمرّسة المتمكنة من أدواتها التي تتصدّى للأدوار الصعبة المركبة، فتقدّمها بعفويةٍ وبساطةٍ، لا تخلو من عبقريةٍ، فتخطف قلوب جمهورها الواسع العريض، وتأسره بحضورها الذكي شديد الإقناع، فيصدقها في أي دور، وهي الشهيرة في أوساط هوليود، بتطويع اللهجات المختلفة، متقنة إياها بشكلٍ فاجأ العاملين في هذا الحقل، مثل دورها الذي لا يُنسى في الفيلم فائق الشهرة "خارج إفريقيا" الذي استحقت عليه جائزة الأوسكار لأحسن ممثلة في منتصف الثمانينيات، حيث بلغت حداً في الإدهاش، لم يصل إليه أحد من مجايليها، حين اعتنقت، بل وتقمصت شخصية بارونة أوروبية حالمة تحب الشعر والموسيقى وسرد الحكايات، شخصية صعبة خارج النمط السائد ترفضها المنظومة البورجوازية، وتعتبرها غير لائقةٍ، كونها لا تراعي الأصول المرعيّة في أوساط الطبقة المحافظه، فتجالس الرجال، وتفضّل صحبتهم وتستهويها اهتماماتهم، في زمنٍ قسّمت فيه الوظائف بين الجنسين بشكل صارم، تأخذها الأقدار إلى إفريقيا لتمضي فيها أجمل أيام حياتها، وتعيش فيها مغامرتها الكبرى في حقل البن الذي صار ملكاً لها. يتخلل ذلك انخراطها الجميل في جملة علاقاتٍ إنسانيةٍ مع السكان المحليين، وفي حبٍّ كبير صعب حارق، مثل حرارة شمس أفريقيا مع رجلٍ لا يقل جنوناً وفروسية واندفاعاً عنها، لتنتهي الحكاية بموت الحبيب، ومغادرة المكان الدافئ الحميم الأحب إلى قلبها.
تبدأ أحداث الفيلم بمشاهد بديعة من قلب القارة السوداء مرافقة لصوت بارونة أوروبية عجوز تتحدّث الانجليزية بلكنة مميزة، تسرد فيه حكاية ارتباطها بالمكان، وعشقها الرجل المختلف النبيل، لنكتشف أنها ميريل ستريب، تردّد بصوت متهدّج حزين "كان لي حقل في أفريقيا".
بهذه العبارة المشبعة بالحزن والعشق والأسى، تشدّك نبرة الصوت العميق إلى متابعة أحداث الفيلم إلى النهاية الحزينة. ولا تختلف مجمل أفلام ميريل ستريب عن "خارج أفريقيا" من حيث حضورها الطاغي، وهي التي قدّمت أدواراً عديدة، حرصت فيها على التنوّع والاختلاف. واستحقت مكانتها العالية بين كبار النجوم، ونالت الحب والاحترام على الدوام. توّجت ستريب، قبل أيام، كل ذلك البهاء والبريق الذي رافق منجزها الإبداعي، عبر عمر من الاحتراق، بوقفتها الإنسانية الشجاعة، مواجهةً أقوى شخصية في العالم، مقرّعة إياه بحزم. وبدت كأنها تشدّ أذنه، باعتباره ولداً أرعن أخرق متهوراً أحمق سيئ التربية، لا يحسن التصرف السليم، وذلك بأقل الكلام الممكن الذي هزّ وجدان كثيرين من فرط حساسيته، مؤكّدة من جديد على دور الفن في الانتصار للحق والجمال، ورفض أي امتهانٍ لكرامة البشر وحقهم في التعبير، حتى لو استدعى ذلك توبيخ زعيم العالم الحر، مسلحين بابتسامتها الحزينة وصوتها المبحوح.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.