في معنى مؤتمر باريس

في معنى مؤتمر باريس

16 يناير 2017

الرئيس الفرنسي والمشاركون في مؤتمر باريس (15/1/2015/الأناضول)

+ الخط -
كثيرةٌ المياه التي جرت، منذ مؤتمر جنيف للسلام في الشرق الأوسط في ديسمبر/ كانون الأول 1973 إلى مؤتمر باريس للسلام نفسه في المنطقة نفسها أمس، صبّ بعضها في قوة إسرائيل التي ازدادت تفوقاً تسليحياً نوعياً، وازدادت تحرّراً من أي حساباتٍ واعتباراتٍ في ارتكاب الاعتداءات أنّى شاءت أيّ عصابةٍ حاكمةٍ في تل أبيب، غير أن شيئاً من تلك المياه صبّ في صالح الفلسطينيين، حضوراً لقضيتهم في العالم، وقناعةً أكثر بعدالتها، وتطلباً أوفى للاستحقاقات البديهية المعلومة للسلام النائي والمشتهى، وإنْ تم، في غضون هذه السنوات، التشدّد في مسألة نبذ العنف، الفلسطينيّ منه قبل الإسرائيلي. كان ذلك المؤتمر في جنيف محاولةً لتحقيق حل للنزاع العربي الإسرائيلي في أجواء نتائج حرب أكتوبر، وناوأت إسرائيل في صدده أي دورٍ للأمم المتحدة فيه، بل وأي فاعلية لأوروبا أيضاً. أما بشأن تمثيل الفلسطينيين، فلم يكن وارداً أبداً أن يحضر أي وفد منهم أو عنهم، وكان إصرار إسرائيل على رعاية أميركية سوفياتية له. لم ينته ذلك المؤتمر إلى شيء، باستثناء التأكيد على قراراتٍ أمميةٍ، وعلى تفاهمات وقف إطلاق النار وترتيباتها، على الجبهتين المصرية والسورية.
كان ذلك في زمنٍ انتهى، في الموضوع الفلسطيني، مع خطاب غصن الزيتون الذي جاء به ياسر عرفات إلى الأمم المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1974، لتكرّ المياه تالياً كرّاً آخر، تتابع وصولاً إلى مصافحة ياسر عرفات مع إسحق رابين في باحة البيت الأبيض، وبمباركة رئيس أميركا، في سبتمبر/ أيلول 1993، الأمر الذي لم يكن ممكناً من دون إبعاد عرفات ورفاقه، والفدائيين المقاتلين، من حدود لبنان مع فلسطين إلى الجزائر واليمن وتونس. استجدّ انتباهٌ إلى محتوىً آخر في الصراع، إلى مضمونٍ ثقافي وحقوقي عالي القيمة والمكانة، الأمر الذي ما انفكّ يُزعج إسرائيل، ويجعلها تمرض جرّاءه. من هم هؤلاء الفلسطينيون حتى يكون لهم مطرحٌ في العالم، وتنقل الأمم المتحدة جلسةً لجمعيتها العامة من نيويورك إلى جنيف في 1988 لتسمع رئيسهم؟ أن يكونوا على خريطة العالم، لا كياناً سياسياً فحسب، بل دولة أيضاً، وإنْ بلا جيش، وإنْ بسلطةٍ كسيحةٍ يرأسها محمود عباس، فذلك كله وغيره من نتائج اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) المقيت الذي كان عرفات يعرف مثالبه أكثر من بسام الشكعة وأحمد جبريل،  ولم ير فيه إرييل شارون سوى أنه واحدة من بدع شيمون بيريز.
كان اجتماع باريس، أمس، مرافعةً دولية من أجل "حل الدولتين"، وفي وسع أيٍّ منا أن يلعن مؤتمراتٍ من شاكلته، غير أن انشغال بنيامين نتنياهو، أياماً، في شتيمته، يعني أن في مضامينه ما ينفع الكفاح السياسي الفلسطيني، ويرفع قضية هذا الكفاح إلى مرتبةٍ أعلى، عندما ترتكز إلى أن الحق الفلسطيني إذا ما افتقر إلى القوة الكافية فإن في وسعه أن يستأنس بالمحتوى الأخلاقي الرفيع الذي يرفض مسألة مصادرة أرضٍ من أصحابها، ليقيم فيها مستوطن مستقدم من أوكرانيا أو إثيوبيا. وعندها ليبلّط نتنياهو وأمثاله البحر، لينتظر دونالد ترامب في البيت الأبيض، والبادي أن انتظاره هذا هو ما يجعله يبشّر نفسَه بأن "الغد سيكون مختلفاً تماماً، وهو قريب جداً"، على ما دوّن أمس. 
لسنا في واحدٍ من مواسم الاحتفال بذكرى قيام الجبهة الديمقراطية، ولا بعيد تأسيس حركة فتح، حتى نسرّي عن أرواحنا بأهازيج البطولة وفلكلوريات الانتصارات الغائمة والبعيدة، وإنما في لحظة انتباهٍ إلى أهمية أن يعرفنا العالم، فلسطينيين أصحاب أرضٍ، لهم حقّ في كيانيةٍ سياسية وجغرافية تخصّهم، لا بأس من تسميتها دولةً، على أن تكون منصةً أولى في درب إنهاء الاحتلال البغيض، وتمثيلاته العنصرية والاستيطانية. هذا ليس هيّناً، ولم يتحقّق بعد، لا في باريس أمس، ولا في نيويورك في مجلس الأمن قبل أيام. وفي تعديل مسوّدة البيان الختامي لمؤتمر باريس سبع مرات (على الأقل) قبل إشهاره معانٍ وفيرة، أهمها أن انتزاع الفلسطيني التفاتةً أوروبية، أو أميركية مرتجلة، إلى بعض حقه، وإلى شيءٍ من وطنه، أمرٌ دونه جهد كثير. ولكن، ثمّة حزمة رسائل بالغة الأهمية وصلت إلى حكومة نتنياهو، في ملتقى سبعين دولة في العاصمة الفرنسية، أمس، أولها أن محمود عباس، أو من سيخلفه، لن ينسى أن إنهاء احتلال 4 يونيو/ حزيران في 1967 هو المبتدأ والخبر.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.