سياسة الهرم المقلوب

سياسة الهرم المقلوب

15 يناير 2017
+ الخط -
رحلت حكومة الحبيب الصيد في تونس منذ أربعة أشهر، وحلّ ركب الحكومة الجديدة بوزرائها الشبان الذين يتّقدون حيوية ونشاطاً، والذين صوّرتهم الدّعاية الحكومية بأنّهم قادرون على العمل في مكاتبهم مدة طويلة، كافية لحل كل الإشكالات المتراكمة التي خلّفها وزراء الحكومة السابقة ممن طغى عليهم السلوك الإداري ومنطق التسيير العادي، من دون المخاطرة بتدشين عهد إصلاحات ضرورية تحتاجه الدولة ويطلبه الشعب.
وكان من الطبيعي أن يكون أول عمل هو إصلاح إخلالات واختلالات قائمة في وزارات متعدّدة، لعلّ أهمّها وزارة التعليم العالي التي لا تحظى بالأهمية التي يفترض أن تحظى بها في منظومة قيادة قاطرة التنمية البشرية والاقتصادية والاجتماعية في مجتمع تحيق به التهديدات من كل جانب، فكثرة القرارات الارتجالية والفوقية والخضوع لابتزاز نقابات صغيرة من العوامل التي ساعدت على جعل منظومة التدريس بتأجيرها تختل اختلالاً كبيراً، وتساهم في ضرب مصداقية الشهادات والمناظرات العلمية، والمثال الأبرز على ذلك ما يحدث لسلك المميزين في التعليم العالي من سياسة تحقير واستهانة بكرامتهم بلغت حدوداً لم يسبق لها مثيل، ففضلا عن تجاهل الوزارة مطالبهم المعقولة القديمة المتمثلة في تيسير ارتقائهم وانتدابهم الداخلي إلى سلك المدرسين الباحثين مثلما هو معمول به في فرنسا الحاضنة الأم والمؤسسة لتقليد التبريز إطاراً علمياً وبيداغوجياً يشرف على تخريج المدرّسين المتميزين منذ القرن 19، واصلت وزارة التعليم العالي التجاهل إلى حدود العبث التام الذي يوحي بتمجيد الجهل وقلّة العمل والتميّز الذي يتوّفر في هذه الفئة من المدرّسين، فأقرّت امتيازات مادية لأساتذة التعليم الثانوي الملحقين وأساتذة السلك المشترك وأعوان الإدارة المركزية بإصدار أوامر تمتعهم بمنحة شهرية خاصة مقدرة بـ 90 دينارا، إضافة إلى منحة المستلزمات المدرسية (320 دينار)، وينضاف إليها تسوية وضعية منحة التعيين في الترقيات الاستثنائيّة التي لم ينل جزء كبير من المبرزين مليماً منها إلى الآن بسبب التراخي والتجاهل، وهي امتيازات تشمل هذا الصنف من المدرسين (أساتذة الثانوي العاملين بالعالي) من دون غيرهم، إضافة إلى موظفي الإدارة المركزية الذين انقضّوا على الفرصة لضم أنفسهم والتمتّع بها. وفي مقابل ذلك، تجاهلت الوزارة تجاهلاً مطلقاً المبرزين الذين يشبهون، من الجهة القانونية المنظمة، لسلكهم أسلاك التعليم الثانوي، باعتبارهم سلكاً مشتركاً يتوّزعون بين القطاعين (التربية والتعليم العالي) خاضعة لابتزاز نقابات معينة وغير مكترثة بإنصاف الجميع، ولئن شملت المنحة الخاصة المبرزين وقتياً من دون أن يفردوا بأمر خاص، فإنّ الوزارة تراجعت إثرها، وأقرّت مبدأ الخصم من الأجور بمفعول رجعي في خطورة مسبوقة تشكل عقاباً جماعياً لهم، وتعكس الاستهانة بمقامهم، بينما كان الأجدر أخلاقياً أن تتحمّل وزر أخطائها، وأن تثبّت المنحة إنصافاً لهم مع زملائهم، خصوصاً، وأنّ المبرّز أعلى رتبةً من أستاذ السلك المشترك، وليس هناك أي مبرّر يستدعي خصماً وحرماناً ستكون عواقبهما وخيمة وكارثية، لأنّ كل الامتيازات التي قدّمت للسلك المشترك ستؤول إلى هرم مقلوب يؤجر فيه الأقل رتبة أكثر من الأفضل رتبة والأكثر شهادات علميّة.
وهنا مكمن الفضيحة الذي يجعل التراتبية المعروفة في نظام الوظيفة العمومية مقلوبا وفي منظومة العلم والاجتهاد أكثر انقلاباً، فهل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تعمل على تكريس الجهل والجهد الأقل و"الخبزة الباردة" بمنطق الأمثال الشعبيّة عندنا أم هي على غير علم بما يحصل؟
حينها نتساءل: ما قيمة مناظرة التبريز التي ترصد لها أموال مهمة، وقد آل وضعها إلى الأسوأ بحرمان المبرزين في التعليم العالي، لا من حقوق مطلوبةٍ مستقبلاً، بل من حقوق مكتسبة وغير قابلة للنقاش أو التشكيك فيها؟ أليس من الأجدر حذفها وإغلاق المؤسسة التي تشرف عليها لأنّه (تبعا لهذا المنطق) تغدو مؤسسةً لا قيمة لها ولا تنهض بأي وظيفة سوى إهدار المال العام، ما دامت الوزارة لم تعد بحاجة إلى هذا السلك، وربما تنوي تعويضهم بأساتذة السلك المشترك مستقبلا؟ ثم أين الإصلاحات المزمع القيام بها، والحال أنّ أحد أهم مكونات منظومة التدريس في التعليم العالي، بل أفضلهم وفي أفضل المدارس، مطموس حقهم المادّي والاجتماعي، مع إشعارهم بالغبن والإهانة؟ هل يعقل أن تكون وزارة مهمتها نشر المعارف تكريس العكس، بفضل إجراءات غير مدروسة، ولا تعكس سوى الخضوع للأنانية والابتزاز الذي يٌفترض أن يصبح عقلانياً ومضبوطاً، بحيث لا يسهم في الإضرار بالآخرين. وعليه، نفهم أنّ إيقاف الترقيات والانتدابات العلمية والتقليص منها بشدة مستقبلاً بسبب شحّ الموارد المرصودة الذي ذهب أغلبها إلى امتيازات وغنائم تسند لبعضهم قد يكون مؤشراً على دخول منظومة التعليم العالي مرحلة الموت السريري، لأنها ستهدم أحد أهم القيم الجامعية، وهي البحث والتطوير والتقدم المعرفي. وما على الوزارة إلاّ أن تتدارك أمرها قبل فوات الأوان. وأول خطوة في الإصلاح المزمع القيام به إصلاح هذا الوضع اليوم وليس غداً.
70E8605D-B6AA-4C31-87FC-B1B73BB4BFE0
70E8605D-B6AA-4C31-87FC-B1B73BB4BFE0
سامي الرياحي (تونس)
سامي الرياحي (تونس)