الشعب السوري والتدجين الذاتي

الشعب السوري والتدجين الذاتي

15 يناير 2017
+ الخط -
قبل أكثر من عامين، عندما لم يكن الحال السوري قد وصل إلى هذا البرزخ المستعصي، كنت ما زلت أظن نفسي قادرةً على النبوءة، وأنني أستطيع استقراء الواقع واستحضار ما خزنته الذاكرة من دروس التاريخ وأحداثه، معتمدة على حجج أدوات المنطق التي تضع المقدمات اللازمة، لتصل ببرهان رياضي إلى النتائج المتوقعة، وأظن أن هناك غيري من تنبأ على هذا الأساس، في مناحٍ عديدة للحالة السورية.
لم أتكهن باكراً، وبعد شهور قليلة على الحراك الشعبي السوري، بأن الأزمة انتهت بأقل الخسائر، ولم أطلق شعار "خلصت"، فكان لدي من الهواجس ما يكفي لأن أخاف من أن أطلق أحكاماً كهذا الحكم، وأنا أرى العنف وقد بدأ باكراً يغرز أنيابه في الصدور العارية التي انطلقت تنادي للحرية، وأرى كيف بدأ الدم يستصرخ مع أولى خيوط نزيفه من شرايين هذا الشعب.
لكنني، بعد أكثر من ثلاثة أعوام، وقد وصل العنف إلى حدٍّ رأيته حينها غير مسبوق في تاريخ البشرية، وكانت سورية قد صارت ساحةً لصراعات المصالح، وميداناً لإدارة الحروب، مع دخول مقاتلين من بلدان كثيرة، لمساندة النظام من جهة، وللقتال ضده من جهة أخرى، وصار التطرّف والدعوات الجهادية والخطابات العنفية والإقصائية هي المسيطرة على الوضع الميداني. وبعد ظهور هذا الكيان المتغول الذي انبثق مكتملاً كالأساطير "داعش". وفي الوقت نفسه، جبهة النصرة والفصائل الملحقة بها، وكلها صادرت ثورة الشعب وطبيعتها المدنية السلمية، ورأيت التردّي المعيشي الذي وصل إليه الشعب السوري، توقعت أن ثورة جياعٍ ستندلع، وكتبت في "العربي الجديد" تحت عنوان "ثورة جياع تقترب في سورية"، مستندةً على قرائن تدعم نبوءتي، وهي أن الشعب السوري ما زال يتذكّر ممارسات الطغمة الحاكمة، 
ومن يدور في فلكها، فعلى الرغم من القلة، وتدني المستوى المعيشي لغالبية الشعب السوري، لم يكن الفقر في سورية يحمل أنياباً، لم يكن يعضّ، لكنه كان يؤجج مشاعر الهوان، ويزيد في إضرام نيران الإحساس بالظلم وهدر الكرامة، عندما كان المواطن يرى ويلمس، كل يوم، ازدياد البون بينه وبين شريحةٍ من الأثرياء، يزداد ثراؤها ويزداد فجورها في الوقت نفسه، فرأس المال الذي نما بسرعةٍ قياسية، وتبرعم مثل فطور فوق مستنقعاتٍ من الفساد، كان وثيق الصلة بالسلطة، وكان يعرف كيف يعقد التحالفات مع أركان النظام. وأن الشعب يعرف أيضاً أن رؤوس أموالٍ تتكدّس على حساب كرامته قبل لقمته. لكن ثورة الجياع لم تحدث، فهل كانت حججي ضعيفةً إلى درجة استقراء نتيجةٍ كهذه، أم إن الواقع أعقد بكثير وأدهى من قدرتي على فهمه؟
في الواقع، هناك جوع نبتت له أنياب، وصار يعضّ أصحابه. لكن، لماذا صرنا بلا ذاكرة، على الرغم من أن طبقة المستفيدين من الفساد صارت أكبر وأشمل، وأن الفساد صار أكثر تنوعاً وأقدر على فتح قنواتٍ ليغرف منها طامحو الثراء الجدد ما شاؤوا مما تبقى من خيراتٍ في الوطن، ومن حياة إخوتهم وحقوقهم فيه؟
من أكثر ملامح الانهيارات المجتمعية التي أحدثها الزلزال السوري الانهيار القيمي، فقد صارت غريزة البقاء بأدنى أشكالها في سلم التطور الحافز للسلوك البشري أمام آلة العنف غير المسبوق، والذي واكبه تأجيج وشحن طائفي وعاطفي رصدت لأجله وسائل الميديا بزخم كبير. أمام هذا الزخم، وبعد تحوّل الإنسان في عصر الصورة والشبكة المفتوحة إلى كائن بصري بامتياز، تزداد عزلته، ليتقوقع على نفسه ضمن فضاء افتراضي، يقدّم له بديلاً مقنعاً عن واقع حقيقي، يتشارك فيه الحياة مع أفرادٍ يشبهونه، صار الفرد السوري معلقاً في فضاءٍ لزج، صار رهين اللحظة الدموية والخبر السريع الكثيف والصورة البليغة النافذة، وصارت ذاكرته تتثقّب خلسة عنه، بلى، صارت للسوري ذاكرة مثقوبة، ينسلّ منها ماضيه القريب والبعيد. ومن هذه الثقوب، تضيع الملامح، تضيع الهوية، يضطرب إدراك الذات.
صرنا أسرى اللحظة، بلا ماضٍ نستعيد منه ما يجعلنا ندرك أننا أحياء بشكل استثنائي. وعلينا أن نفهم هذه الحياة، لنعرف كيف نمسك بمصيرنا، ولا قدرة على الانفلات من تأثير المشهد والواقع الذي تقدمه الميديا والشاشات، بعد عمليات مونتاج موجهة، لننتبه إلى أن هناك مستقبلاً علينا العمل من أجله. نحن أسرى حاضر ينفلت بسرعةٍ من بين الأصابع قبل أن ندركه، أسرى العنف ولم يترك مساحةً في كياننا الإنساني إلا اعتدى عليها مهما صغرت، أسرى الهلع من المشاعر الضاغطة التي تنتابنا من هذه العدمية، بعدما فقدنا أي أملٍ في إمكانية النهوض. صارت الحياة بالنسبة إلى السوري هي التشبث بالبقاء، حتى لو كان على حساب أي قيمةٍ أخلاقية، وشُلّ تفكيره كاملاً بعدما عانى عقوداً من العطالة، تحت نير القمع والاستبداد.
خطفتنا اللحظة المصنوعة بحرفيةٍ عاليةٍ من ذواتنا، غرّبتنا عن أنفسنا، حوّلتنا إلى قطيعٍ فاقت قدرته في التدجين الذاتي أية وسائل أخرى، مهما بلغت من المكر والقسوة في تمكين التدجين والترويض.
لم يعد مكان لنبوءتي في حقل المنطق، بدوت مغفلةً في نبوءاتي كلها، من يشاهد الطرق 
والأساليب التي يتبعها الشعب السوري للتأقلم مع حياة الفاقة والقلة، الحياة التي أعادته إلى ما قبل الحالة المدينية، سوف يمتلئ باليأس، كيف يعيش الناس بلا كهرباء، بلا تدفئة، بلا محروقات، بلا غاز للطبخ، بالحد الأدنى من سد الرمق، وبجانبهم وعلى الملأ هناك حيتان الفساد وأثرياء الحرب، أولئك الذين انبثقوا كالفطر، بيدهم أموال ورساميل حصلوا عليها من محنة الشعب، ودمائه وتهجيره ودماره، سيشكلون، أو بدأوا بتشكيل طبقةٍ اجتماعيةٍ بلا رصيد قيمي أو معرفي. هؤلاء المتاجرون بمصير الشعب ليس لديهم أي نوع من الروادع الأخلاقية، بل ليس لديهم أي معرفةٍ أو اعترافٍ بالأخلاق. والناس المغلوبون على أمرهم يعيشون معهم فوق الأرض نفسها، ويشمّون الهواء نفسه، لكنهم يعانون الجوع، الفقر، الفاقة، انعدام الأمل، ويعيشون بلا حافز أو دافع، ليس في وجدانهم مكان لثورةٍ من أجل لقمتهم ولا كرامتهم. ولا حتى لعطشهم.
هل تستقيم الحياة وتسير من دون الماء؟ ها هي تسير في سورية من دون الماء، أو أقله في الحد الأدنى الشحيح منه، لاقى سوريون كثيرون طرقاً يمسكون فيها الحياة من رقبتها تحت ضغط العطش وانقطاع المياه، بل يبتكرون وتمتلئ مواقع التواصل، بابتكاراتهم حول تحدّي مشكلة المياه، كما مشكلة التدفئة، كما مشكلة الغاز. يبدعون في تلقف النكت والسخرية السوداء من واقعهم، فهذه عبوة مياه "بقين" يمسكها أبٌ، ويقول لابنه بقين تعني: بق الصبح وبق المسا. وآخر يضع صورة أسطوانة غاز طبخ، وعليها لوحة مفاتيح، وولد يرجو أباه أن يعطيه كلمة السر، ليعمل كأس شاي، وامرأة شامية ثقبت عبوة بلاستيكية معبأة بالماء، لتصبح مثل صنبورٍ تقوم بالجلي تحته، وهي تتفاخر بأن أهل الشام لا تفرق معهم، حتى لو قطعوا مياه الفيجة. فأي اغترابٍ يعيشه معظم السوريين؟ وأي ابتعادٍ عن كينونتهم الإنسانية؟ وأي ذاكرةٍ هربت منها ملامح شخصيتهم؟ وما الذي صنعه العنف المدجج بحربٍ إعلاميةٍ رهيبةٍ جعلت السوريين أسرى لحظةٍ غير معينة، فلا هم يمتلكون ماضياً، ولا هم قادرون على فهم المستقبل.
هربت من بالهم معظم المعاني، حتى الثورة كمفهوم انسلّ من قواميسهم، ولم يعد هناك مكان لنبوءة بثورة جياعٍ تقترب في سورية، على الرغم من الجوع المتوحش.