تغييب رفسنجاني قبل غيابه

تغييب رفسنجاني قبل غيابه

14 يناير 2017

كبار رجالات الدولة الإيرانية أمام جثمان رفسنجاني (10/1/2017/الأناضول)

+ الخط -
بوفاة هاشمي رفسنجاني عن 82 عاماً، بدا أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد خسرت واحداً من سياسييها البارزين والبراغماتيين، يُحسن مخاطبة العالم الخارجي، كما يجيد مخاطبة المعترضين في الداخل، إذ يتحدث كأنه منهم. في الانتخابات الرئاسية عام 2013، لم تتوان دوائر الحكم عن منعه من الترشح، وهو رئيس جمهورية سابق، والحجة أنه متقدّم في السن، علماً أن المرجع آية علي خامئني يبلغ حالياً السابعة والسبعين عاماً. في نعيه للرجل، لم يستطع الأخير أن يكتم ما سماها "خلافات" مع رفسنجاني. وبالفعل، كان الراحل واحداً من حلقة الحكم الرئيسية، ولم يكن من النوع الذي يتراجع عن مواقفه، لذلك تم إقصاؤه في السنوات الأخيرة، وهي السنوات التي اندفعت فيها نخبة الحكم نحو سياسةٍ توسعيةٍ تستخدم المذهب في العالم العربي وأجزاء من أفريقيا، مع رصد ميزانيات هائلة لطموحات السياسة التدخليّة، والمجازفة بإشعال صراع طائفي، وهو ما تم بالفعل في العراق وسورية، وبدرجة أقل في لبنان.
وبينما شارك رفسنجاني مع الرعيل الأول الذي قاد الثورة على الشاه إلى جانب الخميني، فقد حافظ على مواقعه بعد الثورة بنحو ربع قرن، قبل أن يجد المتشدّدون فرصتهم بالصعود عام 2005، وحيث خسر رفسنجاني الانتخابات الرئاسية أمام محمود أحمدي نجاد، وكان قد تسنّم رئاسة الجمهورية مرتين منذ العام 1989 ولايتن متتابعتين. وشهد صعود المحافظين نقلة قوية، وإن كان الحضور الكثيف لهم سابقاً على ذاك، فالمرجع علي خامئني رئيس سابق للجمهورية في 1981، ورئيس مؤسس للحرس الثوري، وقائد الثورة الإسلامية خلفا للإمام الخميني في العام 1989. ومن المفارقات أن رفسنجاني كان من بين أبرز من زكّى خامئني لمنصب قائد الثورة الإسلامية، بديلا عن خيار تشكيل قيادة جماعية، حيث شهد أن الخميني كان يشيد بمناقب خامئني، وتفيد روايات متطابقة بأنه هو من أقنع الخميني بقبول وقف إطلاق النار في الحرب العراقية الإيرانية.
كانت للرجل كلمة مسموعة. ولكن، ليس في السنوات العشر الأخيرة التي تضخّم فيها التيار
المحافظ، وبسط سطوته على مختلف أوجه الحياة ومفاصل الحكم، وبات الحرس الثوري يلعب دوراً في الحياة السياسية الداخلية والخارجية أكبر من بقية مؤسسات النظام. فيما تم إقصاء الإصلاحيين والتعامل معهم بفوقيةٍ شديدة، تصل إلى حد الترهيب، وفي مقدم هؤلاء مهدي كروبي ومحمد خاتمي، وقد حافظ رفسنجاني على علاقته الشخصية بخاتمي مقيّد الحركة، وقد دأب على الثناء على الرجل الذي تم تهميشه، وهو ما أسهم في إضعاف حظوة رفسنجاني لدى المرجع وخبراء النظام. وقبل ذلك، لم يكن النظام ينظر بعين الرضى لرفسنجاني، فقد شهد العام 2012 الحكم على ابنته فائزة ستة أشهر، بتهمة بث دعايةٍ معاديةٍ للحكومة، أما ابنه مهدي فقد حُكم بعشر سنوات بتهمة الفساد. وبهذا، تعرّض الرجل إلى حربٍ تم شنها عليه وعلى أسرته، لمجرد أن لديه آراء غير متطابقة مع آراء المتنفذين في الحكم. ومن آرائه هذه دعوته إلى تحسين العلاقات مع الغرب، وجذب الاستثمارات إلى إيران. وكان من أبرز مؤيدي التفاوض مع الغرب بخصوص الملف النووي، ورحّب، مع غيره، ترحيباً حارّاً، باتفاق جنيف النووي أواخر العام 2015.
وبوفاته، خسر الجسم القيادي النخبوي في إيران واحداً من مكوّناته القليلة المتميزة، إذ يصعب الحديث الآن عن وجود تنوّع لدى نخبة الحكم. يُذكر، في هذه المناسبة، أنه، بعد منعه من الترشّح للانتخابات الرئاسية في العام 2013، عمل على دعم ترشيح الرئيس الحالي، حسن روحاني، والذي ما زال يوصف بأنه ينتمي لتيار معتدل، غير أن روحاني وصل إلى موقعه هذا، بعد أن سيطر المحافظون على كل مفاتيح السلطة والتحكّم. ولا يجد رئيس الجمهورية ما يقوله سوى تكرار مواقف المرجع وقادة الحرس الثوري. ولكن، بعباراتٍ ملطفة، وهو ما يفعله أيضاً وزير الخارجية، محمد جواد ظريف، فقد أصبح الحكم، في العقد الأخير، مشبعاً بأيديولوجية مذهبية، تدفع بأصحاب معتنقها إلى التمدّد خارج الحدود، والسعي إلى إلحاق العرب الشيعة بالمرجعية الدينية، وتاليا المرجعية السياسية في طهران وقم. وبخلاف السياسة التي كان
يتبعها الإمبراطور شاه إيران الذي لم يتدخّل في نسيج المجتمعات العربية، واكتفى بنفوذ سياسي كبير، فإن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ترى في الكيانات العربية مشاريع لمستعمرات إيرانية، وأن من حقها، باعتبارها جاراً قوياً، التدخل في شؤون الآخرين، فالتدخل واجب، وليس عيباً!
لم يكن رفسنجاني من هذه السياسة، وكان يتطلع لإيران قوية اقتصادية، وتقيم علاقات حسنة مع دول العالم، وبما يمنح الإيرانيين فرصةً للعيش بعيداً عن إيقاع الحرب، بعد الحرب الطويلة مع العراق التي دامت ثماني سنوات. والواضح الآن أنه لا مكان لمن يعترض من داخل إيران على السياسة التوسعية لنظام الحكم في دوائر الحكم العليا، ولا الوسطى. وقد لوحظ أن تشييع رفسنجاني تحوّل مناسبة سياسية، فقد أمّ المرشد بنفسه الصلاة على روح رفسنجاني، فيما سار عشرات الألوف في التشييع من مؤيدي الإصلاحيين، ولوحظ النعي الحار من روحاني: "فقد الإسلام كنزاً ثميناً، وفقدت إيران قائداً عسكرياً فذا، وفقدت الثورة الإسلامية حامل راية شجاعاً، وفقد النظام الإسلامي حكيماً نادراً".
أما حزب الله في لبنان فقد نعى رفسنجاني، ووصفه بأنه "رجل عظيم وداعم ومساند للتشيع السياسي المعاصر في الشرق الأوسط"، علما أنه لم يصدر عن الرجل ما يفيد بذلك، وهذه من المرّات النادرة التي يتحدث فيه حزب الله، ذو الولاء الإيراني، علناً عمّا يسميه "التشيع السياسي في الشرق الأوسط". والمقصود تمتيع أبناء هذه الطائفة بالسلطة والنفوذ (في الشرق الأوسط) بدعمٍ كامل من إيران. كان رفسنجاني من رجال الدين ورتبته الدينية هي حجّة إسلام، ولا تعلوها إلا مرتبة آيات الله، غير أن صفته السياسية هي الغالبة على شخصيته، ولم يعرف عنه التشدّد والغلو في المجال الديني. وعلى الرغم من سجله الحافل بالمشاركة في الثورة، ونجاحه في الوصول إلى رئاسة الجمهورية ولايتين، وعلى الرغم من الخصال التي وصفه بها الرئيس الحالي روحاني، إلا أن ذلك كله لم يشفع له، فقد تم تهميشه في السنوات الأخيرة، عقاباً له على امتلاكه شخصية معتدلة مستقلة!