عمليَّة الدَّهس وهشاشة جنديّ الاحتلال

عمليَّة الدَّهس وهشاشة جنديّ الاحتلال

11 يناير 2017
+ الخط -
تستوقفنا في عمليَّة الدهس التي نفّذها شابٌّ مقدسيٌّ، وأسفرت، قبل استشهاده، عن مقتل أربعةٍ من الجنود الإسرائيليين المُسلَّحين، وإصابة أكثر من عشرة آخرين، في القدس، حالةُ الهلع، وفقدان السيطرة التي ألمّتْ بغالبيّة الجنود، حيث يُظهر فيديو ليس فقط هرب الجنود القريبين من الشاحنة المُهاجِمة، ولكن الهلع التامّ الذي لحق بمجموعةٍ من الجنود البعيدين، نسبيًّا، عن مكان الحادثة، وذلك بعد فترة ليست قصيرة نسبيًّا من الدَّهس؛ ما يشير، أيضا، إلى بطء استيعابهم الحدث، وتأخُّر ردود فعلهم، وحين أدركوا الموقف، هرعوا إلى ملاذاتٍ بعيدة، والبنادق في أيديهم.
اللافت في هذا المشهد أنه يُظهر حالة الجنديِّ المُعَدّ للمُواجَهة، تقنيًّا وتدريبيًّا؛ من حيث المهارات، (العالية وَفْق المُفترَض) ونفسيًّا، وفعلياً (غير المُشرِّف غالباً، ولا سيما وقت المواجهات المباشرة) فهؤلاء الذين فرُّوا بعيداً ليسوا مُجرَّد مدنيِّين غافلين، إنهم جنود، وفي أهمِّ المدن، في نظر دولة الاحتلال، في مكان هو ذروة التوتُّر، وفي زمانٍ لم يهدأ تماما، منذ الهبّة الفلسطينية، وتزيد دواعيه، مع زيادة الحديث عن توجُّهات أميركية بنقل سفارة واشنطن إلى القدس.
هذا الانطباع السلبيُّ، والصورة الذهنيَّة التي لا ينفكُّ جنودُ الاحتلال يؤكِّدونها، عن أنفسهم، مرَّة تلو المرَّة، يعكسان الانهزامَ الداخليَّ؛ نتيجة ضعف الإحساس بأحقيَّة وجودهم، وأحقيَّة ممارساتهم، في فلسطين المحتلَّة، كما تعكس السُّلوكاتِ الانهزاميَّة، ومِن أهمِّها وأكثرِها تَكراراً الجبنُ الجماعيّ، وفقدانُ السيطرة، وأحياناً حالات الهلع والصُّراخ والبكاء، ولا سيما أمام العمليَّات الهجوميَّة المفاجئة، ولو كانت بسلاح متواضع، وبقدرات فردية، كما في عملية عين عريك التي تمكَّن فيها فلسطينيٌّ، ورفيقٌ مساعد معه، أوائل 2012 من قتل ستّة جنود احتلاليِّين، وإصابة آخرين بجروح، قبل أن ينسحب، تاركًا صدمةً هزَّت أركان الاحتلال.
وكما في اشتباك مسلَّح، وقع في الخليل، أواخر سنة 2002، وأطلق عليه الإسرائيليون اسمَ
"زقاق الموت"؛ نسبة إلى الزقاق الذي جرى فيه، قرب مستوطنة كريات أربع، ولم يكشف عنه إلا في أواسط 2014. وكشف عن مقتل اثني عشر جنديا احتلاليًّا، على الأقل، وأصيب فيه أربعة عشر جندياً بجروح متفاوتة. وفي أثنائه، كان وزير الجيش، ورئيس الأركان، لا يفهمان ما الذي يحدث، وذلك بحسب تقريرٍ بثّته القناة العاشرة الإسرائيلية، وأظهر حالة فوضى وخوف وسط الجنود، لم يُجرِّئهم على دخول الزقاق، وذلك كله وفق شهادة الجنود الذين كانوا هناك، وكان من بين القتلى أربعة ضباط كبار، أبرزهم قائد لواء الخليل في الجيش الإسرائيلي، ولم يستطع الجنودُ المتورّطون في الموقع، وَفْق تسجيلٍ أظهر أصواتَهم، وقتها، أنْ يعرفوا مِن أين يأتيهم الرصاص (!)، "ساعتان ونصف لم نفهم شيء"، كما قال هيئة الأركان.
وكذلك لا تُنسى عمليَّة ناحل عوز التي نفّذها المقاومون في غزة، خلف خطوط العدوّ، في موقع ناحل عوز العسكري، وتمكّنت نخبةٌ منهم مِن قتل جنود، وجرح آخرين، وخطف سلاح أحد الجنود، والعودة بسلام، وأظهر تصوير الفيديو عناصر نخبة كتائب عز الدين القسَّام، وهي تقتحم الموقع العسكري، وتُجْهِز على عدد من جنود الاحتلال، بعد اشتباكٍ من نقطة صفر، ثم يعود العناصر، من النَّفَق نفسه الذي تسلَّلوا منه.
والنتيجة أن الانهزام، واستشعار الرُّعب، والتخلِّي التامّ المريح عن الواجب، لا يُعَدُّ في العُرف الحقيقي، أو الفعلي، في أوساط الجنود، وفي خلفيَّتهم الاجتماعية المدنية، لا يُعَدّ عاراً يُخشى، أو يُجتنَب، المهمّ هو استنقاذ النفس من الموت، وليس حتى استنقاذ الجنود الآخرين (!).
ولا يمكن عزل هذه العملية عن التطوُّر الأكثر سلبية، حتى الآن، في عدوانيَّة دولة الاحتلال، بل في همجيّتها، وفاشيَّة حكَّامها، وعلى أعلى المستويات السياسيَّة والعسكريَّة. وفي القضاء، مدفوعةً بزخم شعبيّ، يمينيّ، سافر التطرُّف والعنصريَّة، فلا تزال تداعياتُ محاكمة الجندي أليئور أزاريا، الذي أعدم الشهيد عبد الفتاح الشريف، وسط مدينة الخليل في مارس/ آذار 2015، لغايات انتقامية مُبَيَّتة مستمرَّة، ولا يمكن إلا أن تستدعي مزيداً من الاستفزاز في الفلسطينيين.
وتصبُّ في هذه الروح الانهزاميَّة المتخاذلة والجبانة، عدّةُ أمور، في أوَّلِها ضعفُ إيمان 
الإسرائيليين، وخصوصاً الجنود، بشرعيّة وجودهم، في فلسطين، وعلى نحو أوضح في الأراضي المحتلَّة عام 67، وهم يحتلُّون شعبا آخر، زاخرا بالحياة، وأنماط الثقافة الحيَّة والمتنوِّعة، وزاخرا كذلك بعلامات الرفض لهذا الوجود الأجنبيّ القهريّ. وينتج عن هذا التفاعل بين ضعف الإيمان بالشرعيَّة الاحتلاليَّة، إسرائيليًّا، وأفعال الصمود والمقاومة، فلسطينيًّا، استشعارُ التدنِّي الأخلاقي، وتراجُع الروح المعنويَّة القتاليَّة، ولا سيّما أن الجنود لا يواجهون، في الأغلب، جنودا، وإنما مدنيِّين يقاومون بوسائل لا ترتقي إلى وسائل دولة الاحتلال، وقد كثُر التحذير من هذه الآثار السلبيَّة على البنية الأخلاقية والنفسية للجنديِّ الاحتلالي، إبّان أحداث الانتفاضة الأولى (أواخر 1987- 1993): "انتفاضة الحجارة"، حيث اهتزَّت مكانةُ الجندي الإسرائيلي، ليس فقط في نظر العالم، وهو يشاهَد، يلاحق أطفالا وصِبْية فلسطينيين، وينكّل بهم، بل وأحيانا يهرب من مواجهتهم، بل في نظر نفسه، وشعبه.
تحدث هذه العملية، في وقتٍ يزداد فيه منسوبُ التحريض، الإجراميّ، فعلاً، (لا شتيمةً)، كما تُظهر دعوةُ وزير الأمن الإسرائيلي، إيلي بن داهان، إلى سنّ قانون يمنح الحصانة التامَّة للجنود في جيش الاحتلال، والعاملين في مختلف الأذرع الأمنيَّة، أيًّا كانت الجرائم التي ارتكبوها، خلال عمليّات ميدانيّة.
ولأن التطرُّف يغذّي التطرُّف، ولأن من شأن خطاب الفاشيَّة التوسُّع والانفلات، فإن مفاعيله لا تنحصر في الفلسطينيِّين، بل تتوسَّع؛ لتشمل إسرائيليِّين رفيعي المستوى لم تعجب اليمينَ الصهيونيَّ مواقفُهم. وفي هذا السياق، يأتي التحريض على أجهزة القضاء في إسرائيل، وفي مقدِّمتها المحكمة العسكرية، ورئيس أركان جيش الاحتلال، غادي أيزنكوت، تحريضاتٍ وصلت إلى الدعوة إلى قتل الأخير. ويحدث هذا الجنوح نحو مزيد من السفور العدوانيّ المؤسَّساتيّ، في وقت تشهد فيه إسرائيل شرخاً عميقاً على خلفيَّة طابع الدولة والمجتمع، والجيش، نحو مزيدٍ من تَدْيِينها، في مقابل محاولاتٍ للحفاظ على الطابع الديمقراطي المدني.
ثم، وبعد ذلك كله، لا يتورّع رئيس وزراء الاحتلال، بنيامين نتنياهو، المتورِّط باتهامات الفساد، عن التضليل، وصرف الأنظار، باستحضار تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ومحاولة استغلال الحملة العالميَّة عليه. وتثبت الأحداث أن القضيَّة الفلسطينية أصلٌ بذاتها، لا تتأثَّر كثيراً، بارتباكات المحيط العربي، وسلبيّاته، ولا باختلاط المفاهيم، أو خَلْطها، بين ظالم مهتزٍّ في صميمه، ومظلوم لا ينسى مظلوميّته.