الفتنة نائمة .. أيقظوها!

الفتنة نائمة .. أيقظوها!

08 سبتمبر 2016
+ الخط -
كنت يوماً ليس بعيداً أسير في أحد أحياء القاهرة، برفقة أحدهم، حينما جذبني جذبة عنيفةً من ذراعي، كادت تخلعه من مكانه، والسبب أنني رأيت أحد المحلات التي تعرض المكسّرات بشكل جميل، فاستهواني المشهد، وفتح شهيتي، فتوجهت إليه لأشتري منه، حين فاجأتني تلك الحركة غير المتوقعة، وأبعدتني عما نويت فعله، وأعادتني إلى مساري "الصحيح"، وفق وجهة نظر رفيقي في المسير. وحينما سألته عن سر الحركة المباغتة والعنيفة، قال لي بدون تردّد: "ده مسيحي"، وحين رفعت حاجبي مستنكراً، قال لي إنه سيأخذني إلى بائع مكسّرات مسلم، مع أن بضاعة المسيحي تفوق بضاعة المسلم جودة وجمالاً.
وليس بعيداً عن تلك الواقعة، وفي طريق عودتي إلى الأردن عبر مطار القاهرة، ركبت سيارة أجرة، حين كانت الدعاية الانتخابية للرئاسة على أشدّها، بعد ثورة ميدان التحرير، وكانت صور المرشحين تملأ الساحات والشوارع، وأحببت أن أستطلع رأي السائق في الانتخابات، ولم يكن يعرف عني شيئاً، إلا أنني من بلاد الشام وعائد إلى بلدي، فانطلق الرجل في إخراج كل ما في داخله، وتوسع في هذا الأمر على نحو استثنائي، ولم يدّخر شتيمةً في نفسه، إلا وقذفها باتجاه مرشح الإخوان المسلمين حينها، محمد مرسي. وأخذ في طريقه طبعاً الملف الإسلامي والمسلمين، وتحدث عن مدى سوئهم، بطريقة من يعلم أنه لن يرى من يستمع إليه، كونه يغادر البلد، خصوصاً بعد أن كتمت أمر ديني، ولم أبد أي ردة فعلٍ تجاه ما كال من اتهامات وشتائم لمرسي ولما يمثّل حينذاك.
تؤكد الواقعتان حقيقة لا تخطئها عين عاقل في مصر أو خارجها، هي أن هناك حالة احتقان مستعصية في الوجدانين، المسلم والمسيحي، في مصر، وهي تخبو وتشتعل وفق الأحداث. هي كأنبوبة الغاز التي لا ينقصها سوى شرارة صغيرة لتشتعل. وبين حين وآخر، تفلت هذه الشرارة من يد هذا أو ذاك، فتثور النيران، ويهرع العقلاء ورجال الإطفاء لإخماد النار، ومهما حاول الطرفان، حتى ولو كانا من أعقل العقلاء أن يخفيا حقيقة وجود أنبوبة الغاز، تفضحهما
 الوقائع، ولا ينفع هنا خطاب التسامح والتصالح وأخوة الوطن والمصير المشترك، في تهدئة النفوس، حتى ولو بدا أنها هدأت، فالأمر متعلقٌ بحالة معقدة من الجهل والعادات المتراكمة وغياب دولة المواطنة والقانون، وسيادة الروح الثأرية، خصوصاً في مناطق الصعيد، حيث تضعف سلطة القانون، ويكثر السلاح، ويبدو أن السلطة الرسمية على مدار حقبها كافة استثمرت هذه الروح لصالحها، ولم تعمد إلى معالجتها جذرياً، وهي في هذا لم تدّخر جهداً في حالة الاستثمار السيئ في تعاملها مع كل الجماعات والطوائف، فكما استثمرت، ولم تزل، أحقاد الجماعات الإسلامية وخلافاتها ضد بعضها (إخواناً وسلفية)، استثمرت الفتنة الطائفية بالروحية نفسها، (مسلمين وأقباطا) ولم تعمد جدياً إلى نزع فتيل الأزمات أو الفتن النائمة، بل أيقظتها في الوقت "المناسب" لها، ولا أدلّ على هذا الأمر من استعانة سلطة الانقلاب بالأقباط، للاستقواء على سحق حكم الرئيس المنتخب، محمد مرسي، والانقلاب عليه. ومع هذا، لم تسلم هذه السلطة من انتقاد السلطات الدينية الأقباط، ولا سلم الأقباط أيضاً من تجاذبات السلطة، بدعوى تهاونها في مسألة حمايتهم من الاعتداءات التي وقعت عليهم في بعض مناطق مصر أخيراً، الأمر الذي دعا برلمان الانقلاب إلى إقرار قانون جديد "ينظم" بناء الكنائس، راعى وجهة نظر المرجعيات الكنسية، في محاولة لاسترضائها، بعد أن هدّدت هذه المرجعيات بالاستقواء بأقباط المهجر الذين بدا أنهم مستعدون للتظاهر أمام البيت الأبيض ضد النظام الذي يقولون إنه عاجز عن حمايتهم، حتى بعد كل ما قدّموه له لسحق الإخوان المسلمين (!)، كما هدّدت تلك المرجعيات بأنها أصبحت قريبةً من حالة العجز في السيطرة على مشاعر الشباب الأقباط، الأمر الذي دفع برلمان الانقلاب لإقرار قانونٍ يرفع القيود عن بناء الكنائس، بل يسهل الأمر ويتيح قوننة الكنائس التي بنيت بدون التراخيص اللازمة، وهو ما يثير حفيظة الطرف الآخر، ويفتح المجال لمزيد من الصراعات والفتن، خصوصاً أن مسألة بناء الكنائس هي البيئة الحاضنة لنشوء النزاعات، وتفجير الخلافات والاعتداءات المتبادلة. ولم تنج من هذا التخبط في التعامل مع ملف الفتنة الطائفية الجماعة التي وقعت ضحية لتحالف الزعامة القبطية مع الانقلاب، حيث كتب أحد الكتاب مقالاً في الموقع الإلكتروني لحزب الإخوان المسلمين المنحل في مصر، عبث فيه في عمق الفتنة، وذكر الأقباط بسوء، ما دفع قيادة الحزب إلى سحب المقال، وتبرأ منه قياديون إخوانيون.
المشكلة في هذا الملف الشائك هي في طريقة تفكير السلطة التي ترى في هذا الملف، أحياناً،
 كنزا برسم الاستثمار، لجهة ترسيخ سيطرتها على المجتمع، كما أن غياب سلطة القانون، وسيادة الجهل والتحريض المتبادل من بعضهم من طرفي الفتنة، يفاقم من الوضع المتفجر الذي يكمن ويثور حسب مجريات الأحداث، على الرغم من وجود نياتٍ طيبة حقيقية لدى كثيرين، ومن الجهتين، للتعامل مع هذا الملف بروحٍ وطنيةٍ وتسامح ديني، تفرضه أخوّة الوطن، وثمّة وقائع كثيرة تثبت هذا الأمر في سلوك الطرفين، وخطابهما الرسمي، وما أنتجته دور الثقافة والفنون المختلفة، من أدبياتٍ وأفلام وغيرها. وفي ظني لو أرادت السلطات الرسمية أن تئد هذه الفتنة، لسقتها ما يلزمها من منومٍ ثقيل، يجعلها تدخل في غيبوبةٍ طويلة، مع علمي الأكيد أنها، لا هي ولا غيرها من قوى، قادرة على استئصال المرض بشكل تام، لكنها تستطيع التخفيف من أعراضه ومضاعفاته، وإبقائه في حالة كمون وسكون. وأحسب أن لدى طرفي "الفتنة" ما يكفي من عقلاء ووطنيين وحكماء، للتعامل الذكي مع هذا المرض، لو سلموا كلهم من المحرّضين والمستثمرين والجهلة، والمتعصبين، ومن يهمه أن تبقى بلادنا في حالة صراع بينيّ ذاتي، لإنتاج مزيدٍ من التخلف والضعف والتفتت والهوان، شعارهم في هذا كله: الفتنة نائمة، إياكم ألا توقظوها.