اللائكية والمزايدة عليها تونسياً

اللائكية والمزايدة عليها تونسياً

04 سبتمبر 2016
+ الخط -
حادثة لباس البحر (البوركيني) في أحد شواطئ فرنسا قبل أيام، وأجبرت فيها امرأة من أصول مغاربية على نزع بعض ثيابها، حتى يبدو على مقاس اللائكية الفرنسية، لم يكن مجرد حدث عابر تناقلته وكالات الأنباء والمواقع الاجتماعية للتواصل، وما زالت تداعياته قائمة. ولكن، كانت لدى محللين عديدين فرصة ثمينة لطرح أسئلة حادة حول علاقة العلمانية بالفضاءين، العام والخاص، خصوصا بعد تشابك الحدود الفاصلة بينهما وتعقّدها. ولكن، أياً كانت الإجابات المؤقتة، علينا أن نتوقع مزيداً من التفاعلات والتداعيات. تزامن الحدث تقريباً، وفي اليوم نفسه، مع سماح السلطات الكندية، والتي تم تغيير بدلة شرطتها قبل قرنين، في استثناء نادر يكاد يكون الوحيد من نوعه، للنساء من أصول مسلمة الراغبات في الانضمام لهذه القوات بلباس الحجاب (غطاء الرأس). المقارنة لا تجوز، كما أن استحضارها لا يعني المفاضلة الأخلاقية بين هذا وذاك، غير أن السلوكين يحيلان إلى مرجعياتٍ وسياقاتٍ، تتعلق بنماذج مختلفة من تصور بناء اللائكية، وبنائها في التجربتين.
تقدّم فرنسا نفسها على أساس أنها صاحبة الملكية الفكرية للنسخة الأكثر صفاءً وأصالةً من اللائكية، بل هي وريثتها والوصية عليها، ويذهب بعضهم إلى أن يجيز لنفسه فرز النسخ المشوهة والمزيّفة منها، وتتناسى فرنسا (على الأقل فرنسا السياسات الرسمية) أن هناك تجارب متعدّدة في صياغة اللائكية والعلمانية، وأن ما بين اللفظين من التباسات الدلالة وخصوصيات التجارب وسياقات التاريخ وإكراهات بناء المشترك، كلها عوامل تذهب إلى تأكيد ما للائكية من تعدّد وتنوع وثراء.
لا يمكن فهم ذلك الحدث (منع البوركيني) من دون إحالته إلى أمرين أساسيين. الأول يشد تلك الممارسات المتكاثرة في السنوات الأخيرة إلى ارتفاع منسوب الكراهية للأجانب، والمسلمين خصوصاً. وفي مقدمتهم المغاربة بشكل استثنائي العائد بدوره إلى تراثٍ استعماري، لم تتخلص منه كل من فرنسا وشعوب "مستعمراتها القديمة". وكان من نتائج هذا الفيض من الصور النمطية المتبادلة الإسلاموفوبيا وانحسار الفضاء الخاص على حساب تمدّد الفضاء العام. لم يعد 
الضيق بأنواع معينة من اللباس، أو بعض الشعائر الدينية، على ضوء هذه النسخة المتشددة حد التبرم بالشأن الديني والاستخفاف به، مجرد عبقرية للفكر الفرنسي، إنما كان أيضا صدى للأزمة التأسيسية للائكية الفرنسية الناجمة عن صراع سلطة الكنيسة مع النخب الحداثية، وتوق الفرنسيين عامة آنذاك إلى الحرية والمدنية، حتى ولو كانت على أنقاض الدين. يبتكر الفرنسيون نسختهم من اللائكية، ويحيّنوها على ضوء الخدوش والجراح التي أصابت وجوههم وأفئدتهم، في القرون الأخيرة. كانت الثورة الفرنسية نصاً وفياً لتلك المرحلة في نواتها الأكثر دموية وقسوة. أما السبب الثاني، فيعود أيضاً إلى التاريخ الفكري والسياسي الخاص بالتجربة العلمانية الفرنسية، والتهديدات الحقيقية لهذا النموذج المتخيل، حقيقة أو عسفاً، من اللائكية، خصوصاً في ظل نشأة تجارب أخرى من بناء المشترك والتصرّف في التنوع وإدارته على غرار بريطانيا وأميركا ومجتمعات الدول الاسكندنافية، وقد تكون تجارب الهجرة ومخاطرها هي التي شجعت هذه النسخة أو تلك، وحدت بعضهم من ملامحها.
المرأة التي كشفت عن بعض أطرافها تحت تهديد السلاح لا يبدو أنها، بمجرد إزالة قطع الثياب تلك، قد انتمت إلى عالم النساء الحديثات، وقد التحقت بكوكبة اللائكيات المتمتعات بمباهج الحداثة، لأنها ستعود، بعد منعها من السباحة، كما شاءت، إلى فضائها الحميمي، لتعيد بناء عالمها الداخلي، بالشكل الذي تراه مناسباً لقناعاتها، وهي قد تدفع دفعاً إلى تحصين تلك الفضاءات، وجعلها ملاذات هووية، وهو آخر مربع لصيانة ذات مرعوبة ومنطوية في انثناء مدمر أحيانا.
تفاعلاً مع ما حدث، كتبت جريدة لوموند الفرنسية افتتاحا كان، في الحقيقة، نصاً احتفائياً بصدور قرار مجلس الدولة الفرنسية، والقاضي ببطلان ما اتخذته مجالس بلدية وجهوية بشأن "قضية البوركيني"، جاء فيه، يوم 26 أغسطس/ آب 2016، "كما في الديمقراطيات، فإن قوة القانون هي التي انتصرت. فبعد جدلٍ كاد يتحوّل خلال أسابيع إلى ما يشبه الهستيريا، أصدر مجلس الدولة قراره الذي أعاد، بفضل حكمته وقوة برهنته القانونية، الأمر إلى الفضاء الذي عليه ألا يغادره مطلقاً أنه فضاء القانون".
بعيداً عن التبريرات السياسية والتحصن بالسياقات الضاغطة، انتصر القانون، وأذعن له الجميع لعلويته المطلقة. يمكن للإرهاب أن يكون مطيةً وذريعةً للمصادقة على مثل تلك الإجراءات، كما يمكن لألسنة الحداثة أن تقول أيضاً "ومن أدرانا ألا تكون السيدة تخفي حزاماً ناسفا ... علينا من باب التحوط أن نتركها عارية تماماً، وقد فعل العرب، و من عاشرهم من ترك وبربر من قبل هذا؟".
المفارقة تكمن في أن صحفاً تونسية رأت في هذا الموقف خذلاناً لها في حربها على التطرف والتشدد، فلقد كتب صحافي، في جريدة عمومية ناطقة بالفرنسية (تمويلها من المال العام)، كانت بوق دعاية خلال 23 سنة لبن علي، مقالاً بعنوان "الانتظارات الحائرة للائكيين" أن وقوف الرابطة التونسية لحقوق الإنسان إلى جانب النساء اللواتي تم منعهن من ارتداء شواطئ النزل السياحية، لنزولهن البحر بملابس مخالفة لتلك المتعارف عليها سياحياً، انتصار للتطرف والتشدّد، وتنازل للإرهاب، وأن هذه التنازلات إنما تشريع لأخونة الدولة وأسلمة المجتمع، وأن موقف مجلس الدولة الفرنسي يخذل الحداثيين التونسيين، في حربهم بالوكالة، على مظاهر التشدّد والتطرف. لا يسوغ الإرهاب لنا مطلقاً شطب ما يمنحه القانون للأفراد من حقوق وحريات".

دلالات

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.