حلب .. "ست المداين"

حلب .. "ست المداين"

30 سبتمبر 2016

سميح شقير: "ست المداين هيِّ حلب"

+ الخط -

"هيْدي حلب، مش أيّْ مْدينة، ستّ المدايِن هيِّ حلب".. صدق الفنان سميح شقير كثيراً في أغنيته الجديدة، كتابةً ولحناً وغناءً، إذ يقول هذا فيها. وهي أغنيةٌ تكاد تُحسب مرثيةً للمدينة السورية التي يريدها القاتلون الكثيرون، شلّت أيديهم، حطاماً لا غير، أو بلا ناسها. يغني سميح: "باقي منها ظلّ مدينة".. بأنغامٍ ذات بساطةٍ ظاهرة، يتوازى فيها الشجى والأسى، الحزن والفقد. وبتقشّفٍ واضح، وبعوده فقط، وصوته الخافت، والذي تقيم فيه أنّات الموجوعين، يؤدي سميح شقير مغناته هذه. تُشاهده، بين صور متحرّكة، لأنقاضٍ وخرائب، ودمار وحرائق ونيران، وأسواقٍ مهجورة وبيوتٍ متروكة، لغبار الصواريخ وجنونها، لأطفالٍ جزعين، ومصابين واجمين، ولركام يفتّش فيه ناس ناجون عن ناس سالمين أو مصابين أو موتى. صور من هذا كله، تتخللها مشهدياتٌ أخرى من حلب لمّا كانت، عمائر نظيفة، وأسواقاً بهيجة، موحيةً بالأمن والأمان.. يغني المغني بين هذا كله عن "رعبٍ وموت"، وعن فقراء باقين، ومقتدرين "فلّوا".

تعبُر حلب من جولة تمويتٍ إلى أخرى، من نوبة قصفٍ متوحشٍ إلى متوالياتٍ مثلها وأعنف. لا يُراد للمدينة التي "انتظمت فيها العلالي العجيبة"، على ما كتب ابن بطوطة، أن تحترق فقط، بل أن تغيب وتمّحي ربما، أن تصير مثالاً كيف يكون تأديب من يرفضون حكم الأسد. تُشاهد ما تُيسر لك شاشات التلفزات من أهوال المأساة اليومية فيها، فيطرأ على بالك سؤالٌ عمّا يريده القاتلون من هذه المدينة بالضبط. ما هكذا يُحارب الإرهاب والإرهابيون، ولا هكذا تُخاض الحروب، ولا بمثل هذه الفظاعة يصدّ نظامٌ متسلط تمرّداً عليه. ثمّة أغراضٌ أخرى، إذن، للأسد والروس والإيرانيين، أولها الانتقام الأقصى والأقسى. لا يجوز لحلب أن ينتفض أحدٌ فيها على المحتل الأسدي الجاثم على البلاد. على فقرائها أن يعرفوا أن نعيماً غزيراً كانوا يرفلون فيه، تحت جناح السلطة الحانية عليهم، وإذا ما ركلوه، فإن عليهم أن يتحمّلوا ما يذوقونه من صنوف التقتيل والتهديم والتهجير، والتي تُبدع فيها صواريخ روسية وبراميل متفجّرة. هذا هو المعنى الأساس في المحرقة الماثلة في حلب، المدينة التي كتب المؤرخ أرنولد توينبي إن صمودها وعدم سقوطها في يد الفرنجة، على الرغم من حصارها الطويل في العام 1124 كان نقطة تحوّل مهم في تاريخ العالم، وقد استعصت على جيوش الصليبيين، فلم تقدر هذه أن تحتلها، لمناعة تحصينها.

مدينة الصناعات الرائقة والبديعة، ومدينة الحلويات الشهية، ومدينة القدود الطربية، تضجّ كتب رحالةٍ وعساكر ورسامين ومستشرقين كثيرين بالإتيان على أناقتها. كتب بعضهم عنها إنها كانت، إبّان العهد العثماني، الأجمل بناءً، وألطف المدن عِشرةً، وأصحَّها مناخاً. كتبوا إن الحلبيين "أكثر أهل السلطنة العثمانية تمدّناً". هذه الحاضرة التي نستيقظ صباحاً، وننام مساءً، ومشاهد الدم والتهديم فيها تؤشّر إلى فداحة القاع الذي تمكث فيه الأمة، كم بقي فيها من سكانها الخمسة ملايين؟ هل يُراد منهم أن يهجروها؟ هل هذه هي الخطة التي لا نعرف؟ هل تشهد يوماً تعود فيه إلى البهاء والألق اللذيْن كانت عليهما، وقد تهدّم فيها نحو مئة وخمسين شاهداً وعمراناً أثرياً؟ احترقت مكتبة المسجد الأموي الذي تضرّر كثيراً. نال الدمار أسواقاً وأبواباً قديمة، وأحالت صواريخ بوتين وقذائف الأسد وحراب خامنئي وأشياعه حواضر في المدينة إلى ما يضرب نفوسنا بسويداء باهظة، وحلب "محلّها في النفوس أثيرٌ"، على ما كتب الأندلسي ابن جبير (توفي في 614 هجرية)، لمّا جال فيها، ولم يستطع أن يُحصي خاناتها لكثرتها، ورآها "بلدةً تليق بالخلافة". وعلى وفرة ما شاهد في أسفاره، رأى ابن بطوطة (توفي في 779 هجرية) أنه لا نظير لحلب "في حسن الوضع واتفاق الترتيب واتّساع الأسواق". أما عن ناسها، فقد أدهش سموُّ أخلاقهم وحسن تصرّفهم ووقارهم الشاعر الفرنسي لامارتين (توفي في 1869 ميلادية).

لم يتزيّد سميح شقير، إذن، في تسميته حلب "ست المداين"، كما غنى أخيرا، في جديده (إنتاج ميتافورا). وقد أوجع كثيراً لمّا رمى زفرته الأسيفة في أغنيته "يا خسارتنا يا حلب".

 

 

 

 

 

358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".