داعش والفشل السياسيّ في فلسطين

داعش والفشل السياسيّ في فلسطين

21 سبتمبر 2016
+ الخط -
على الرغم من أن الفشل هو الأوضح في المشاريع السياسية الفلسطينية، ولا سيما مشروع التفاوض مع إسرائيل الذي أفرز السلطة الوطنية، وَفْق اتفاقات أوسلو، تلك السلطة التي لم تستطع الارتقاء إلى دولة، بعد أن مضت بعيداً في الالتزامات المطلوبة منها، بشهادة الدول الراعية، وأميركا، وحتى بشهادات إسرائيلية رسمية، على الرغم من ذلك، فإن الفشل في هذه المشاريع يلقي بظلاله على مجمل الحياة الفلسطينية في الضفة الغربية، وفي قطاع غزة. ومِن أبرز تجليّاته استمرارُ الانقسام العائد، في أهمِّ أسبابه، إلى حرص قادة السلطة الفلسطينية على استبقاء الاعتراف الدولي، وبالذات أميركا التي تضع، مع الاحتلال الإسرائيلي، خطًّا أحمر أمام المصالحة مع حماس، قبل أن تعترف الأخيرة بإسرائيل، وتنبذ (الإرهاب)، أي تكفّ عن العمل المسلَّح ضد الاحتلال، وأهدافه، وعدوانه الذي لا يتوقّف، حتى على أكثر الأماكن قداسةً، وأكثفها رمزيّة، وهي القدس، والمسجد الأقصى.
وفي جديد مظاهر الفشل السياسي تأجيلُ انتخابات البلديات والمجالس المحلية الذي اتُّخذ، على الأرجح، تفادياً لاستغلاله من بعض الدول العربية، لإعادة المفصولين من حركة فتح، ومِن أهمِّهم القيادي الفتحاوي السابق، محمد دحلان، الذي لم ينسَ محمود عباس تلك الخصومة الحادّة معه، إذ لم يكن غائباً عن الأخير، حين قرَّر إجراء الانتخابات، مخاطر فوز حماس، فالأزمة الداخلية في "فتح" لا تقلّ خطرا، أو قد تزيد، عن خلافها مع حماس.
وعوداً إلى الفشل الأعمق، وهو الانسداد السياسي في التفاوض، وكذلك التوقّف، أو التعليق، في المشروع المقاوم الذي تضطلع به حماس، وغيرُها من الفصائل، بسبب ظروف القطاع المحاصَر منذ سيطرة حماس عليه في 2007، والحروب العدوانية الإسرائيلية المتكرِّرة التي أنهكت القطاع، وبسبب ظروف الضفة الغربية، حيث وجود الاحتلال المكثّف، والتنسيق الأمني (الفلسطيني). ويطرح هذا الانسداد تساؤلات حول أفق القضية الفلسطينية، وحول صلاحية كلا المشروعين، على تفاوتٍ بين مشروع التفاوض الذي أثبت عُقْمَه، وانعكس على نحو عميقٍ على الحركة التي تبنَّته، ودافعت عنه، أكثر من غيرها، وهي "فتح"، ومشروع المقاومة الذي تأتيه المساءلة من جهة توفّر ظروف نجاحه، في ظلِّ الوضع العربي والإقليمي الراهن، ولا سيما بعد التغيير الذي حصل في مصر، حيث عبد الفتاح السيسي أكثر حرصاً، وتطلُّباً للرضا الإسرائيلي، وأكثر اندفاعاً في حُمّى التخويف والتبشيع لجماعة الإخوان المسلمين التي ترتبط بها حماس فكرياً، وفي البعد الإسلامي الواسع. وكذلك بعد احتدام الصراع الإقليمي، بين محور إيران، ومعها سورية، والمقابل العربي والإسلامي، بأبعاده الرسمية والشعبية، حيث لم يعد يناسب حماس أن تتعمّق في العلاقة مع إيران، وهي تلتحم بنظام الأسد الذي أمعن في الإجرام والتدمير غير المسبوق في سورية، ففي مثل هذه الظروف تشتدُّ حاجةُ طهران إلى أثمانٍ مباشرةٍ وصريحةٍ من حماس الحركة السُّنية، بأهميَّة موقعها، في فلسطين المُوِّحِدة لمجمل العالم الإسلامي والعربي، وبأهميَّة رمزيّتها السُّنِّية، للإيهام بأن إيران لا تحكمها معاييرُ الطائفية السياسية. وفي ضوء ذلك، يتوارد التفكير فيمن يمكنه أن يستثمر هذا الفشل، وما إذا كان تنظيم داعش، بحمولاته المتشدِّدة، قادرا على مداعبة آمال قسم من الفلسطينيين؟

أظهرت استطلاعاتٌ أُجريت حول مدى التأييد الذي يحظى به داعش في عدد من الأقطار العربية أنَّ حوالي 4٪ من الفلسطينيين ينظرون بشكل إيجابي إلى داعش، بينما ينظر 20% إليه بشكل إيجابي إلى حدٍّ ما. وهذا هو أعلى مستوى من الشعور الإيجابي تجاه التنظيم في استطلاع نوفمبر/ تشرين الثاني 2014. وأظهر المؤشِّر العربي لعام 2015 للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أن الذين ينظرون إلى تنظيم الدولة الإسلامية في فلسطين نظرة إيجابية جدّا هم 2% والذين ينظرون إليه نظرة إيجابية يعادلون 4%، ليكون إجماليّ الناظرين له بإيجابية 6%، أمّا نسبة الناظرين له سلبياً فقد كانت 76% فيما كانت النظرة السلبية إلى حدٍّ ما 11%، وإجماليُّ النظرة السلبية 87% من المستجيبين للاستطلاع ممّن سمعوا عن تنظيم داعش.
وعلى الصعيد العملي الميداني، لم تلتقط أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، ولا أجهزة الأمن التابعة لحماس في غزة، خلايا جديَّة، تشير إلى وجود عمل تنظيمي لداعش، وإن كان يحدث، بين حين وآخر، القبض على متعاطفين معهم، وآخرين ينسجون علاقات مع التنظيم. وقد تكون غزة مُعرَّضةً لاحتمالات أكبر من التأثُّر بداعش، يأتيها من شبه جزيرة سيناء، حيث "أنصار بيت المقدس" الذي بايع تنظيم الدولة، واعتبر سيناء ولايةً تابعة لـ (الدولة الإسلامية).
كما شهد قطاع غزة بيانين أواخر سنة 2014 يحملان توقيع "الدولة الإسلامية في العراق والشام- ولاية غزة"، هدَّد الأول النساء اللواتي لا يلتزمن اللباس بمواصفاتٍ حدّدها. وأما الثاني فقد هدّد شعراء وكتابا كفّرهم، ولم يتبع ذلك ترجمة فعلية لتلك التهديدات، ولم نشهد نشاطاً لافتا للتنظيم هناك.
وفي بداية 2015، أعلن جهاز المخابرات الداخلي الإسرائيلي (شين بيت) اعتقال ثلاثة شبّان من الخليل، ليكونوا أول خليّةٍ، بحسب الرواية الاحتلالية، تستلهم نهج داعش، وتخطِّط لشنِّ هجماتٍ على قوّات الاحتلال والمستوطنين، لكننا أيضاً لم نشهد بعدها، أعمالا تدلّ على تكوّن تنظيم داعش في الضفة الغربية، أو تبنّيه أعمالاً موجّهة ضدّ إسرائيل. وكذلك تعتقل السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية أحياناً مشتبهين بتأييد، أو تعاطف مع داعش، من دون أن يشكّلوا مصدرا للقلق.
ولعلّ هناك أسباباً، أو عوامل تتحكَّم في آفاق داعش في فلسطين، وحظوظه، منها ما يتعلق بفلسطين، وأخرى تتعلق بالتنظيم نفسه، أما الفلسطينيون فيشتركون مع محيطهم العربي والإسلامي، لكنهم يتميَّزون بمؤثِّرٍ مهيمن، يشتركون في وقوعهم ضمن مخاضات الصراعات ومفاعيلها على الأمة التي لا ينفكّون عنها، ويقعون تحت تأثير التحوّلات الفكرية والعقَدية والطائفية السياسية، أو السياسيويّة.
لكن الأرضية الوجدانية الخاصة، والبناء الفكري العام، هنا، في فلسطين يُسهم في تشكيله على نحو أكبر البعدُ الوطني، وحتى الجماعات الإسلاميةِ المرجعيَّة، كحماس والجهاد الإسلامي، اكتست بطابع وطني. وأمّا التي لم تفعل، مثل الجماعات السَّلَفية، وحزب التحرير الإسلامي، فلا تحظى بانتشار جماهيري واسع، ولا تشغل ثقلاً سياسياً مؤثّرا في الأحداث، من الناحية العملية، حتى الآن، على الأقل، إذ تبدو خارج السياق الوطني.
وفضلا عن الخصوصية الفلسطينية، تؤثر حالة تنظيم داعش نفسه في مدى التأييد الذي يحظى به، بشكل عام، وفي فلسطين، فالموقف منه، وهو ينحسر نفوذُه، ويُطرَد من المدن والمناطق التي سيطر عليها، غير الموقف منه حين كان في مرحلة التوسُّع والعنفوان. فربما كان شعور الفلسطينيين بالإجحاف والظلم الذي لحق بهم وبقضّيتهم، وبالتواطؤ الدولي والأميركي، تحديدا، مع إسرائيل وجرائمها المُمَنْهَجة، دافعا لدى بعضهم إلى اتخاذ مواقف ناتجة عن ردود أفعال ناقمة، وانفعالية، أكثر ممَّا هي ناجمة عن معرفة حقيقية بواقع "داعش" وفكره وخططه، أو أولويَّاته.
وما دام أن "داعش" لا يقدِّم، في أولويَّاته، الهَمَّ الأول للفلسطينيين، وهو الاحتلال الإسرائيلي، (إذا غضضنا الطرف عن الأثر السلبي للعامل الفكري والعقدي المتطرِّف لديه)، فإنه لا يتوقع أن يحظى بتأييد كبير، فلسطينياً، فقد كان من أسباب نجاحه، في بعض المناطق العربية، أنه دقّ على وتر التهميش والظلم الذي يتعرَّض له أهلُ السُّنة، على يد إيران والأنظمة المتحالفة معها في العراق وسورية، والجماعات التي تقاتل معها، ولا سيما في العراق، ثم سورية، على نحو منفلتٍ، ومستفزّ.
وما دام أن التغيير الفكري العميق لدى الشباب الفلسطيني لا يتجه سريعاً نحو فكر "داعش"، فإنه سيظلّ يستشعر غربةً في أوساطهم، إلا في نطاقاتٍ محدودةٍ جعلت قلّة يتوجّهون إلى أماكن حكم "داعش" للانخراط في أعماله القتالية، لا كفلسطينيين، بالضرورة، ولكن كأيّ مسلمٍ متأثر به، من أنحاء العالم.