قواعد اللعبة تغيّرت

قواعد اللعبة تغيّرت

21 سبتمبر 2016

ساركوزي يبدأ المنافسة على الرئاسة في2017 (12/9/2016/فرانس برس)

+ الخط -
انطلقت الحملة الانتخابية للرئاسيات الفرنسية باكراً. مع الدخول السياسي لهذه السنة، أخرج مرشحو اليمين واليسار في فرنسا جل أسلحتهم، وانتشرت الكتب والبرامج والحوارات التلفزيونية والمقالات التي يشرح فيها كل مرشح برنامجه ورؤيته لحل مشكلات فرنسا الداخلية والخارجية، لكن الملاحظ أن جل البرامج والخطابات شبه خالية من الأيديولوجيا، حيث تنزاح المرجعيات الفكرية بين اليسار واليمين، وتتقدّم الحلول التقنية والبراغماتية للمشكلات، بعيداً عن الاختيارات الكبرى التي تغيّر جذريا مسار الدولة والأمة.
لمّا توفي الجنرال الفرنسي، شارل ديغول، كتبت أكثر من صحيفة فرنسية عنواناً مثيراً (فرنسا أصبحت أرملة). لا تستطيع أي صحيفة، اليوم، أن تكتب مثل هذا العنوان عن وفاة أي شخص مهما كان وزنه، وإلا تعرّضت للاستهزاء والنقد، ليس لأن أمثال ديغول لم يعودوا موجودين في فرنسا، بل لأن ارتباط الناس بالقادة السياسيين تغير بفعل تفكيك القيم التقليدية التي كانت تحيط رجال الدولة بهالةٍ من التقدير والعرفان، وتحيط المشاريع السياسية الكبرى بهالةٍ من الإعجاب والأمل، وتحيط الوطنية بهالةٍ من التقديس...اليمين كما اليسار تغيّرا في كل أوروبا، ما عاد اليمين يحمل الفكرة نفسها عن الوطن والقومية، ومكانة بلدانهم في العالم، وما عاد اليسار يتشبث بالثورة والتمرّد على كل شيء. مازال اليمين محافظاً. لكن، من دون نوستالجيا، ومن دون تعصّب في الغالب، ومن دون بحثٍ عن الريادة في عالمٍ صار بلا حدود. ومازال اليسار يبحث عن المساواة والحرية والحقوق الاجتماعية، لكنه يبحث عن التغيير في قراءةٍ جديدةٍ لنمط الإنتاج الرأسمالي، لا في الكتب الماركسية القديمة وبيانها الشيوعي ونمطها اللينيني أو الماوي.
يتغيّر العالم، وتغيّرت معه منظومة القيم السياسية، وتمثل البشر الأيديولوجيات القديمة والحديثة. نعم، يوجد يمين متعصب يحظى، بين الفينة والأخرى، بتأييد الجمهور الغاضب. لكن، لا أحد يعتقد جدّياً أن هذا اليمين المتعصب يصلح بديلاً للحكم. الناس يصوّتون لهذا اليمين، خوفاً من المهاجرين أو من البطالة أو من العولمة الزاحفة على الحدود والخصوصيات والثقافات، كما سيُبقي اليسار الثوري اليوتوبي على وجوده، وسيواصل التحرّك يميناً ويساراً، لكنه لا يشكل رهاناً للكتلة الحرجة من الطبقات الوسطى. لا يخرج اليسار الراديكالي عن كونه تعبيراً عن الغضب من التفاوتات الاجتماعية الصارخة، ومن نفوذ الرأسمال المتزايد وسلطة الشركة والسوق والعولمة التي حوّلت المواطن مستهلكاً، والإنسان بضاعةً، والوطن سوقاً. اليسار الثوري، كما اليمين المتعصب، كلاهما يحتكمان إلى صناديق الاقتراع، ويداهنان الجمهور، ويتملقان للشعب.
هل هذا يعني أن العالم الغربي دخل عهد الفراغ الأيديولوجي، وأن لا شيء على الطاولة. أبداً، الغرب يعجّ بمشاريع جديدة تنهض، وأخرى قديمة تنهار، وهو أبعد ما يكون عن نبوءة نهاية التاريخ التي أطلقها فوكوياما، وانسحب إلى الظل، تاركاً أطروحته في عهدة المحافظين الجدد في أميركا، والذين ترجموها إلى هيمنةٍ مقيتةٍ وأحاديةٍ قطبيةٍ في عالم متعدّد ومتغير.
هناك المشروع الديمقراطي الكبير الذي يسمح لكل المشاريع بالتعبير عن ذاتها، بل والذي تحت خيمته يمكن أن تجتمع مشاريع سياسية كبرى في حكومة واحدة أو في برلمان واحد أو في مؤسسات واحدة أو في قرار كبير واحد. لم تعد النخب السياسية في الغرب تفكّر في السياسة على منوال (النموذج المثال) الذي يرسمه المنظّرون في عقولهم، ويسعون إلى تنزيله على الواقع، مهما اختلفت تضاريس هذا الواقع، وبيئته وخصوصياته وإكراهاته. صار الساسة، بفعل اتساع المشاركة في القرار، وتطور الممارسة الديمقراطية، وانتشار وسائل الاتصال والتواصل، أكثر براغماتية (بالمعني الإيجابي)، فالصحة والتعليم والبيئة والشغل والتأهيل المهني والوقاية من الأمراض والحوادث والكوارث والزيادة في الدخل وتطوير المدن والصناعة ووسائل النقل، قضايا وأوراش تحتاج إلى القليل من السياسة والكثير من التقنية، القليل من الأيديولوجيا والكثير من الإبداع والدراية والانفتاح على العصر والابتكار والمواهب. لو عاش ماركس حتى رأى العمال في مناجم بريطانيا يصوّتون للمحافظين، والفلاحين الفرنسيين يصوّتون لليمين البورجوازي، والأغنياء الإيطاليين يصوّتون لليسار، والشباب الغاضب في الجامعات يصوّت لليمين المتعصب، لسقط من الكرسي الذي يجلس فيه، ولفهم أن صراع الطبقات ليس قاعدة، وأن الديمقراطية غيّرت قواعد اللعبة.

دلالات

A0A366A1-882C-4079-9BED-8224F52CAE91
توفيق بوعشرين

كاتب وصحفي مغربي، رئيس تحرير جريدة "أخبار اليوم" المغربية.