عن منع مقابلة المرزوقي

عن منع مقابلة المرزوقي

20 سبتمبر 2016
+ الخط -
ما حدث، في الأسبوع الماضي، كان من ثمراته تعزيز حرية التعبير والإعلام في تونس. وما حدث أكّد، مرة أخرى، أن هذا المكسب الذي وفرته الثورة للتونسيين أصبح من الثوابت الصلبة التي يصعب المساس بها، على الرغم من أن حرية التعبير غير المنضبطة أصبحت تزعج بعضهم كثيراً، وفي المقابل، هناك من يستفيد من السقف العالي للحرية، لكي يسعى، بكل الطرق والوسائل، من أجل التخريب المعنوي، وتيئيس التونسيين من احتمال بناء مستقبل أفضل.
يمكن اختصار ما حدث في القصة التالية. أجرت قناة التاسعة حواراً مع الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، دام حوالي ساعة ونصف ساعة، لكن الحوار لم يبث في التوقيت المتفق عليه. عندها، بدأت الأسئلة تتوالى عن الأسباب والحيثيات، وكانت المفاجأة، عندما تحدّث مصدر في القناة عن تعرّضها لضغوط من مسؤولين، قالوا إنهم تكلموا باسم الحكومة أو من القصر الرئاسي، وطلبوا، بشكل غير رسمي، عدم بث الحوار. ولم يتأخر رد فعل حزب الحراك الذي أسسه المرزوقي، حيث تم اتهام رئيس الجمهورية، الباجي قايد السبسي، بالوقوف وراء هذا المسعى، كما اتهم المرزوقي من يقفون وراء محاولة حجب الحوار بـ "الأغبياء".
وفي لحظات قليلة، أصبحت مسألة منع رئيس سابق من ممارسته حقه في التعبير قضية رأي عام وحديث المجالس. وفي المقابل، نفت مصادر في القصر الجمهوري حصول تدخل لدى القناة حول هذه المسألة، وهو الموقف الذي عبرت عنه الحكومة التي انتقدت بشدة إدارة القناة، واتهمتها بأنها تسعى إلى الإثارة، كما وجّه الناطق باسم الحكومة (وهو قيادي في حزب معارض يشارك في الحكومة الحالية) نقداً لاذعاً للمرزوقي، بالقول "لا يحق لمن أصدر الكتاب الأسود ضد الصحافيين أن يعطي دروساً للحكومة في حرية الصحافة والإعلاميين". كما تفاعلت مع القضية نقابة الصحافيين والهيئة المستقلة للإعلام السمعي والبصري، وطالبتا بالتحقيق في الأمر، من أجل تحديد المسؤوليات.
قصة غريبة تبدو في الوضع التونسي الراهن أشبه بحادثة دونكيشوتية، لأنها لا تنسجم مطلقاً، لا مع روح الثورة وأهدافها، ولا مع السياق الراهن للانتقال الديمقراطي. إذ هل يعقل أن يفكر رئيسٌ منتخبٌ في أن يمنع رئيساً سابقاً من إجراء حوارٍ مع وسيلة إعلام في ظل ديمقراطية ناشئة؟ ثم ما الذي يمكن أن يغيّره رئيسٌ سابق، عندما ينتقد سلطةً قائمة ويهاجمها، ويوجه لها تهماً أصبحت تذكر في وسائل الإعلام صباح مساء ويوم الأحد.
هناك خللٌ ما يقف وراء هذا المشهد السوريالي، لأنه لا معنى لكل المبرّرات أو التأويلات التي قيلت في هذا الشأن، ولا طائل منها. وفي انتظار الكشف عن حقيقة ما حصل، وبقطع النظر عن مدى صحة الوقائع التي ذكرت، وهوية من تدخل وخلفياته، فالمؤكد أن الخطورة في الضجة التي حصلت أن من شأن ما جرى أن يؤدي، في نهاية التحليل، إلى قتل السياسة بمعناها العميق والسامي، وذلك من شأنه أن يدفع المواطنين إلى احتقار طبقتهم السياسية التي لا تزال تتمتع بقدرةٍ عجيبةٍ على الانتكاس والتورّط في التفاهات والتهريج، على الرغم مما حققته من مكاسب.
من المحزن أن هذه الضجة انفجرت عشية توجه رئيس الجمهورية نحو نيويورك من أجل استعراض تجربة الانتقال الديمقراطي الوحيدة من نوعها في عالمٍ عربيٍّ غارق في الحروب والكوارث، كما أنها حدثت أيضا قبل أسابيع قليلة من تظاهرةٍ دولية تستعد لها تونس من أجل إقناع مئات الشركات في العالم بأهمية الاستثمار في هذا البلد المهدّد بانهيار اقتصادي وشيك. ومع ذلك، لما حدث وجه إيجابي، يتمثل في أن كل من يفكر في المساس بحرية التعبير تشبّ النيران في ملابسه وجسمه.