"عملية الخرطوم".. المهمّة القذرة

"عملية الخرطوم".. المهمّة القذرة

17 سبتمبر 2016

مهاجرات إفريقيات في خيمة في الخرطوم (30أغسطس 2016/فرانس برس)

+ الخط -
من أقنع الاتحاد الأوروبي بأنّ حل مشكلة لاجئي أفريقيا سيكون بالتعاون مع الحكومة السودانية؟ صحيح أنّ موقع السودان، وانفتاحه على الدول الأفريقية التي ينطلق منها سنوياً عشرات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين، يجعلانه محطّ اهتمام كلّ من يرعبه أمر الهجرة إلى أراضيه؛ لكن أهمّ ما يعيب هذا التخطيط أنّ الاتحاد الأوروبي لا يرى في السودان أكثر من معبر فقط للهجرة غير الشرعية، وليس مصدراً لها أيضاً؛ للأسباب نفسها التي تعاني منها الشعوب الأفريقية الأخرى.
وإزاء هذا الاعتقاد، أخذت دول الاتحاد الأوروبى تسترضي الحكومة السودانية، في وقت تواصل الأخيرة مفاقمتها الأوضاع الإنسانية الكارثية في عدد من أقاليم السودان بالحرب، والفشل في الوصول إلى سلام في أقاليم دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق. كما لا تخفي الحكومة دورها البارز في إنتاج اللاجئين والنازحين من أقاليم السودان الأخرى، ومن دون استثناء، الهاربين من شظف العيش وسوء الأحوال والقمع وكبح الحريات.
بدأت صياغة مشاريع هذا التعاون للحصول على تمويل أوروبي منذ الإعلان عن "عملية الخرطوم" بين الاتحاد الأوروبي ودول القرن الأفريقي لمكافحة أسباب الهجرة غير الشرعية وتبعاتها، منذ 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014. وقد ذكر وزير الخارجية الإيطالي، باولو جنتيلوني، وقتها، أنّ أوروبا بصدد اعتماد نهج مشترك في كل بلادها، يشمل الدبلوماسية والأمن والتنمية.
وفي خضم هذه الأحداث، تبدو إيطاليا أكثر بروزاً من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، فبالتعاون بينها وبين السودان، بالإضافة إلى بريطانيا، تم القبض على تاجر بشر إريتري، في يونيو/ حزيران الماضي، في أحد أحياء الخرطوم، وتُعتبر عصابته المسؤولة عن وفاة 356 شخصاً في السفينة التي غرقت بالقرب من جزيرة لامبيدوسا سنة 2013. وبعد ترحيله إلى روما، اكتشف أنّه الرجل الخطأ، وقد يكون تم استبداله بضالعين في هذه التجارة، من ضمنهم مسؤولون حكوميون.
كما استبعدت السلطات الإيطالية، نهاية الشهر الماضي، عدد 48 مهاجراً سودانياً إلى الخرطوم، تم تحديدهم، بواسطة مسؤولين سودانيين، ما اعتبرته منظماتٌ لحقوق الإنسان تواطؤاً إيطالياً مع بلدٍ تُنتهك فيه الحقوق الأساسية، وعدّته أيضاً انتهاكاً للقانون بالإبعاد الجماعي.
كشف صحفي أوروبي متخصّص في شؤون القرن الأفريقي أمر التعاون بين الطرفين، إلى درجة تزويد الاتحاد الأوروبي حكومة السودان بالمال والعتاد، لمواجهة أمر الهجرة غير الشرعية إلى دوله. وفيما بعد، أعلنت الحكومة السودانية أنّها ومنذ يونيو/ حزيران الماضي، نشرت الآلاف من قوات الدعم السريع (جزء من مليشيا الجنجويد)، على الحدود بين السودان وليبيا لوقف عبور اللاجئين.
وبعد أن دفع الاتحاد الأوروبي للسودان لهذا الغرض، تم الاستقصاء عن مصير الأموال، والتي
اكتشف أنّها تذهب إلى هذه المليشيا المذكورة. وأضاف الصحفي أنّ المليشيا ألقت القبض على مئات من اللاجئين، في الفترة القليلة الماضية. تطور الأمر إلى أن أعلن قائد مليشيا الدعم السريع، محمد حمدان حميدتي، أنّ قواته تقوم بمهام كبرى في إطار وقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا، بل وصف عمله بأنّه دفاعٌ عن الأوروبيين، وطالب دول الاتحاد الاوروبي بالدفع، مهدّداً بوجود 190 من اللاجئين الذين قبضت عليهم قواته. باتت قوات الدعم السريع تتحدّث عن مكافحة الإرهاب، وهي تترقب تمويلاً أميركياً أيضاً، بعد أن ضمنت التمويل الأوروبي.
تمضي الحكومة السودانية في خطتها، من غير أن يرمش لها جفن، على الرغم من أنّ أمر حماية الحدود يُعدُّ قانوناً من المهام الموكلة للقوات المسلحة، فضلاً عن وجود قوات مشتركة سودانية ليبية، مقرها مدينة دنقلا السودانية.
ما يدور من فوضى ما هو إلّا نتاج لأزمة الدولة السودانية، والتي لا تقتصر على غياب الديمقراطية وحدها، وإنّما تتمثّل، أيضاً، في تفشي الفساد السياسي والإداري والمالي والاقتصادي، والذي أدى إلى الانهيار الاجتماعي. ولن يتم التوصل إلى حل، إلّا في إطار تصور شامل لحل كل المشكلات التي قادت إلى هذه الأزمة، وأولاها أزمة الجيش الذي تتجسّد فيه رمزية كرامة الوطن وعزته.
من المرجّح أن يقود هذا التكليف الأوروبي إلى تبعاتٍ أخرى، هي الاعتراف الدولي بهذه المليشيا، والتي سبق أن دانها المجتمع الدولي في حرب دارفور، وإلى الآن وما ترتكبه من تجاوزاتٍ في منطقتي الصراع في جنوب كردفان والنيل الأزرق. كما سيستفحل التغييب العام لمؤسسة الجيش السودانية، ما يُعدُّ نذيراً بمزيد من الانشقاق داخل هذه المؤسسات، ورفع أسهم هذه المليشيا، ما يزيد من رقعة انعدام الأمن، وستزداد النزاعات في السودان في ظل غيابه.
يقدّم الاتحاد الأوروبي الأموال للحكومة السودانية، والتي تذهب مباشرةً لهذه القوات التي دخلت في مساومة مع الاتحاد الأوروبي بإلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان، وربما تبرئة البشير من تهم المحكمة الجنائية الدولية.
لا يجدر أن تُبرّأ ساحة الاتحاد الأوروبي من تقديم أي مساعداتٍ لقوات الدعم السريع، ما لم تتم المساءلة بنشر تفاصيل آليات صرف هذه المساعدات، بما فيها إجراءات كبح الفساد وآليات التحقق المحتملة من تقديمها، ومساهمتها في تقوية الأجهزة القمعية. قد تغيب شعارات الإنسانية عن إعلانات الاتحاد الأوروبي، في ظلّ مشكلة اللاجئين التي تؤرق مضجعه، ويحدّق خطرها بأسواره المنيعة. وهنا، يثبت أنّ هذه الدول مستعدة للتمويل والتحالف مع أي حكومةٍ، مهما كان مغضوباً عليها أممياً وإنسانياً، في سبيل أن تمنع وصول جحافل شعوبها إلى أراضيها، من دون أن يسترعي انتباهها، لماذا هرب هؤلاء من الجحيم حيث تدفع هي لحراسة حكوماته الديكتاتورية وتثبيتها.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.