عن مفهوم الإنسانية

عن مفهوم الإنسانية

07 اغسطس 2016

(جوزيف حرب)

+ الخط -
عبارة رائعة في إحدى روايات دوستويفسكي "من السهل جداً أن نكون إنسانيين عن بعد. أما حين يتطلب الموقف أن نكون في قلب الحدث المؤلم والكارثي أحياناً، عندها تُوضع إنسانيتنا على المحك". أقول هذا الكلام بحيادٍ تام، ومن تجاربي الحية في الطب، خصوصاً في المشافي، كان لي الحظ أن أقارن بين ممارسة الطب في دول العالم الثالث (عملت ربع قرن في المشفى الوطني في اللاذقية) وممارسته في باريس وبعض مشافيها، وفرنسا تعتبر الدولة الأولى من ناحية الضمان الصحي والعناية بالمرضى. ويؤسفني أن أستنتج أنه قد يكون من حظ المريض أنه يعيش، في دول عالمٍ ثالث، حيث الخدمات الطبية محدودةٌ وناقصة، وقد يبدو كلامي صادماً ولا إنسانياً في البداية
بدايةً، يجب التذكير بحقيقةٍ بالغة الأهمية، هي أن متوسط عمر الإنسان في العالم المتحضر، أصبح حوالي 86 سنة أو يزيد. وأورد، هنا، حالة مرضية، يمكن الاستنتاج منها عبراً كثيرة. كنت بمرافقة مريض في الواحد والتسعين عاماً، أصيب بكسر في الفخذ، وهو يقيم في باريس، وتربطني به قرابة، وتم إسعافه بلمح البصر إلى المشفى، حيث أجروا له عملاً جراحياً ناجحاً، وكان التعقيم ممتازاً والخدمات الطبية في أرقى حالاتها، إذ يكفي المريض أن يضغط على جرسٍ بجانبه، حتى تحضر الممرضة في الحال، وتطلب من المريض أن يمشي كل يوم بضع خطواتٍ بمساعدة جهاز خاص. ولسوء الحظ، ولأن الأطباء أغرقوه بالأدوية اللازمة لشفاء كسر الفخذ، أثرت هذه الأدوية على معدته، وأدت إلى حدوث قرحة نازفة فيها، ما تطلب أن يُنقل له إسعافياً تسعة أكياس دم. ولم يحتمل جسده الكهل (هو في أرذل العمر) كل هذا الدم، فصارت لديه متاعب في أجفانه ووجهه ورئتيه، ودخل في اختلاطٍ جديدٍ، هو الالتهاب الرئوي والوذمات المُعممة، خصوصاً في الوجه، وارتفعت حرارته، بعد أن كانت طبيعية، وصار على الأطباء المشرفين على علاجه أن يعالجوا كسر الفخذ والوذمات المعممة في جسمه، لأن جسد ابن الواحد وتسعين عاماً لا يحتمل كمية تسعة أكياس من الدم، إضافة إلى علاج التهاب الرئة.
وكنت ُ أتابع خطة العلاج خطوةً تلو خطوةٍ، وأتذكر علاج المرضى في اللاذقية، حيث يتشارك المريض الغرفة مع مرضى عديدين، وتغصّ الغرفة بالزوار من أقارب وجيران وأصحاب، ويكاد التعقيم يكون معدوماً. ومع ذلك، ولعجيب المصادفة، فإن المرضى كانوا يتعافون، على الرغم من انقطاع أدوية عديدة، حتى أننا في المشفى الوطني في اللاذقية، كنا نسمي قسم العناية المشدّدة بالعناية الإلهية.
وتحضرني دراسةٌ بالغة الأهمية، قام بها بعض أطباء العيون في الهند، حيث كانوا يجرون عملية استئصال الماء الزرقاء لأكثر من مئتي مُصاب في الهواء الطلق، وبالحد الأدنى من التعقيم. وكانت العمليات تنجح، من دون أي اختلاط التهابي يُذكر. ما استنتجته بحياد تام وبأني شاهدة على ممارسة الطب في العالم الثالث، وفي واحدةٍ من أرقى دول العالم، من حيث العناية الطبية، أن هنالك حدوداً فيزيولوجية لا يمكن تجاوزها، وبأن رجلاً في التسعين أو أكثر لا يمكنه أن يعود، مهما تفننوا في علاجه، إلى صحة ونشاط رجل في الثلاثين، وبأن عبارة للعمر أحكام دلالة بالغة، وقول نجيب محفوظ "العمر هزيمة" أدق وصفٍ وأصدقُ تعبيرٍ، لوصف الشيخوخة، وبأن الملايين أو المليارات التي تُصرف على العجائز غالباً ما تأتي بمفعولٍ عكسي، إذ يدخلون في اختلاطاتٍ مرضيةٍ، لم تكن في الحسبان، لأن طاقة جسدهم الذي هزمته الشيخوخة لا يمكن أن يعود إلى فيزيولوجية ابن الثلاثين ونشاطه، بل تؤدي العناية الزائدة والهجوم بكل أنواع الأدوية على جسدٍ استنزفته الشيخوخة إلى أمراضٍ واختلاطاتٍ جديدة لا يمكن أن تحصل في دول العالم الثالث.
كم كنت أضطر للضحك بدل البكاء، حين كنت أقرأ لافتةً عند مدخل قسم الأمراض العصبية في المشفى الوطني في اللاذقية (فالج لا تعالج). والفالج هو الشلل، ونادراً ما يتمكّن الأطباء من معالجة حالة شلل. ما أريد قوله، بحياد تام، أنا الشاهدة على الطب في عالم متخلف، وعالم قمة في التطور العلمي، إنه لا يجب أن يغيب عن بال أحدٍ أن لكل جسد طاقة، وأن للعمر أحكاما، ولا يمكن إعادة الكهول إلى عمر الشباب.
الإنسانية الحقيقية لا تعني الإسراف والمبالغة وصرف الملايين على جسدٍ كهل، بل تعني تفهم الظروف الموضوعية والواقعية لفيزيولوجيا الإنسان، كما خلقها رب العالمين. وأخيراً، رحم الله نجيب محفوظ الذي قال: العمر هزيمة. وهو هزيمة، مهما كانت العناية الطبية متفانية.

831AB4A8-7164-4B0F-9374-6D4D6D79B9EE
هيفاء بيطار

كاتبة وأديبة سورية