تركيا: اللوحة الأرضية والبحور الأربعة

تركيا: اللوحة الأرضية والبحور الأربعة

06 اغسطس 2016
+ الخط -
وأنت محمولٌ على بساط الأخبار اللاهثة خلف تطورات الساعات الانقلابية الشاقة والعسيرة، فإن اللوحة الأرضية المركزية، صفيحة الأناضول المستطيلة المسيّجة بوقار، وبهيبة التاريخ الغني بمراحله المتقلبة، هي أول ما ينقر على شاشة الذاكرة، لتظهر معها خريطة العالم القديم، بمحيطه المتنوع من شرقه إلى غربه.
للعالم قراءاته المختلفة ومصالحه الكبرى، لكن تركيا، على أي حال، لم تعد مميزةً بالطقم العثماني والطرابيش الحمراء، أو بأدوارها التاريخية في أوروبا والعالم الإسلامي فقط، وإنما مميزة، لكونها دولة ديمقراطية حديثة، تمثل الشرق الكبير، وجسراً رئيساً بين الغرب المختلف والشرق الذي يبحث عن هويته المعاصرة.
شاهدنا لحظات الارتباك في ردود الأفعال العالمية خلال ساعات الانقلاب، لكن الخوف من الانزلاق إلى المجهول والمغامرة الكارثية كان الجامع الأعظم، فلا يذهب الظن بعاقلٍ، مهما كانت ألوانه السياسية، أن يتغافل عن المخاطر التي ترافق عدم استقرار دولةٍ عظمى، بمكانة تركيا ومكانها، وبامتداداتها الحيوية التي تلامس، بحدودها، أمماً مختلفة وهويات متضادة، من أطراف البلقان في الغرب حتى الحدود الأرمينية والأذرية في الشرق، ناهيك عن محيطها الشرق أوسطي، بأحداثه الساخنة.
ما يحسب للحظة التركية الأهم في تاريخ المنعطفات الكبيرة أن الشعب، بتياراته السياسية، وانتماءاته وقومياته، أصبح، بعد هذه التجربة الأخيرة، يشكّل الدرع الحصين للديمقراطية، تماماً مثلما أصبح أداء أحزاب المعارضة مميزاً وفريداً في حكايات ديمقراطيات الشرق. فالمعارضة، كما رأينا، لا تحرّكها خصومةٌ أو شهوة السلطة، على حساب استقرار العملية الديمقراطية، وهو درسٌ بالغ الأهمية، لعل الآخرين جديرون بأن يفتحوا أعينهم، لا ليدهشوا، بل، ليتعلموا كثيراً منها. وعلى الرغم من أن قطاعاتٍ في الجيش حاولت الانقلاب، إلا أن الجيش التركي نفسه هو من شارك القوى الشعبية في إزالة تداعيات الوضع حينها، فالجيش هو الحامي للدولة وللدستور، وهو بلا شك مؤسسة تركيا الكبرى التي تحتاج إلى إعادة ضبط وتقويم حقيقي. لكن، ومع هذا، من الضروري الحفاظ على هيبة مؤسسة الجيش ومكانتها ودورها الحيوي الكبير في حماية البلد، وإبعادها عن الأيديولوجيات، مهما كانت توصيفاتها، لضمان ولاءاتها الدستورية خارج أي تبايناتٍ سياسيةٍ، أو تنافس الأحزاب على السلطة.
تركيا بلد كبير متنوع ومعقد، ويجب أن تكون هناك قراءة واعية لحركة الشعب في وجه
الانقلاب، لأن ذلك لا يُعد رصيداً شخصياً للرئيس أردوغان، وإنما حصيلة تراكم الوعي الشعبي لمعاني الديمقراطية والتداول السلمي. ولأنه ليس بعيداً عن تركيا، هناك جارتان عربيتان، يُقتل فيهما الشعب تحت عناوين مختلفة. وربما صنع ذلك كله هبّة الجماهير التركية، لترسم لوحة استثنائية في تواريخ الانقلابات، ونموذجاً يؤسّس لبناء ضماناتٍ شعبيةً للدولة الديمقراطية. وهذا الحراك الشعبي المناهض لفوضى الانقلابات سيضيف لحكومة "العدالة والتنمية" تحدياً مهماً وصعباً، لأن عليها الخروج من أجواء الانقلاب إلى حواراتٍ داخليةٍ بناءة، للحيلولة دون تخطي الإجراءات الموضوعية، ومنع أي تجاوزاتٍ، ربما ستكون بذرةً لانقساماتٍ، أو ستقود إلى إفراغ البلد من كفاءاتٍ مهمة، مثل القضاة والأكاديميين وبعض القيادات من التكنوقراط وغيرهم.
تركيا، كما يُنتظر منها، ستذهب تدريجياً إلى مصالحةٍ وطنيةٍ داخليةٍ، وإلى تلبية كل المتطلبات التي تمنع أي انقساماتٍ داخل المؤسسات والمجتمع، كما أنها ستواصل إعادة إنتاج علاقاتها الخارجية، بما يخدم التفرّغ لأولوياتها، في ترميم الشقوق التي تفرزها عملية مواجهة نتائج المحاولة الانقلابية الفاشلة، كما تسعى إلى الحفاظ على مصالحها الاقتصادية، وضمان نمو القطاعات السياحة والإنتاجية والتعاون التكنولوجي، وضخ روح متجدّدة في شراكاتها الاقتصادية. وبالتأكيد، لن تكون، روسيا وإسرائيل، بعيدتين عن خطة استعادة المسارات الطبيعية، وتنمية علاقات المصالح المشتركة، وربما النظر فيما تسمى المقاربات الباردة تجاه القضية السورية (؟) إلى حدودٍ تتكامل، بشكل أو بآخر، مع التوجهات الدولية بما يخدم استقرارها، فتركيا دولةٌ تتجاذبها مصالح حيويةٌ واستراتيجيةٌ كبرى ومتنوعة، تتطلب سياساتٍ ذكيةً، وعلاقاتٍ متوازنةً، بشكل دقيق، مع الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا ومحيطها العربي والإسلامي. وتلك هي بحورها الأربعة، وليست المياه الزرقاء التي تحيط بها في المتوسط وإيجة والأسود ومرمرة. ومع أن هناك قراءاتٍ ترى أن المرحلة المقبلة ستشهد بروداً في علاقات تركيا مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، بسبب ردود الأفعال الغربية تجاه الانقلاب الفاشل، بالإضافة إلى تراكماتٍ سلبيةٍ لمواقف الغرب من تحركات تركيا في المنطقة، خصوصاً في القضية السورية، وكذلك موقف حلف الناتو من أزمة روسيا.. ولكنها، على أي حال، ستكون مؤقتةً، وغير عميقة، نظراً للضرورات الجيوبوليتية، وأهمية تركيا لاعباً رئيساً في المنطقة.
لكن، ومن الزاوية العربية، فإن متابعين كثيرين يشدّدون على ضرورة أن يتعلم العرب من
تجربة تركيا، خصوصاً فيما يتعلق بأداء حزب العدالة والتنمية، في الحفاظ على الخطاب الديمقراطي الليبرالي والدفاع عن دستور البلد، فتركيا ليست دولةً للخلافة في منهج الأتراك الحالي، ولن تكون، لأنها دولة ديمقراطية حديثة، لا يمكنها أن تعيش من دون أن تتنفس الهواء الذي يربط "حيوات" الآخرين، ولها مصالح استراتيجية مشتركة مع الآخرين، وتفهم كيف تواجه تحديات التنمية، بأبعادها التقنية والحضارية، والذهاب إلى المنافسة الخلاقة مع دول العالم في مجالاتٍ حيويةٍ، خصوصاً بعد تحقيق نجاحاتٍ، هي الأبرز في التاريخ الحديث على الصعيد الأقتصادي.. ولا تسعى إلى الانزواء خلف أي طروحاتٍ أيديولوجية، قد تنقل المجتمع إلى دوامة الصراعات، وترمي أثواب الداخل إلى مهاوي الحالة العربية والإسلامية المحيطة. إذن، تركيا دولة ديمقراطية حقيقية، ورئيسها زعيم ديمقراطي يؤمن بدولته الحديثة، وليس سلطاناً عثمانيأ أو خليفة مسلمين، كما يحاول بعضهم إلباسه تلك الصفات، فالشعب التركي سينتخب أردوغان، إن واصل نجاحاته، وإن أخفق سيغيّره، وهذا هو الدرس الذي على العرب أن يتعلموه بعمق.
AAB015A3-241D-4B6E-BA3E-DBC2E98F4649
أحمد عبد اللاه

كاتب يمني ومختص في قطاع البترول، يقيم في كندا